فصل: باب رَفْعِ الصَّوْتِ بِالنِّدَاءِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب مَا يُصَلَّى بَعْدَ الْعَصْرِ مِنَ الْفَوَائِتِ وَنَحْوِهَا

وقال كريب‏:‏ عن أم سلمة قالت‏:‏ ‏(‏صلى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد العصر ركعتين، وقال‏:‏ ‏(‏شغلنى ناس من عبد القيس عن الركعتين بعد الظهر‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عائشة قَلَتْ‏:‏ ‏(‏وَالَّذِي ذَهَبَ بِهِ، مَا تَرَكَهُمَا حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ، وَمَا لَقِيَ اللَّهَ حَتَّى ثَقُلَ عَنِ الصَّلاةِ، وَكَانَ يُصَلِّي كَثِيرًا مِنْ صَلاتِهِ قَاعِدًا- يَعْنِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ- وَكَانَ عليه السلام، يُصَلِّيهِمَا، وَلا يُصَلِّيهِمَا فِي الْمَسْجِدِ، مَخَافَةَ أَنْ يُثَقِّلَ عَلَى أُمَّتِهِ، وَكَانَ يُحِبُّ مَا يُخَفِّفُ عَنْهُمْ‏)‏‏.‏

- وقالت مرة‏:‏ ‏(‏مَا تَرَكَ النَّبِيُّ عليه السلام، السَّجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ عِنْدِي قَطُّ‏)‏‏.‏

- وقالت مرة‏:‏ ‏(‏رَكْعَتَانِ لَمْ يَكُنْ الرَسُولُ صلى الله عليه وسلم يَدَعُهُمَا سِرًّا وَلا عَلانِيَةً‏:‏ رَكْعَتَانِ قَبْلَ الصُّبْحِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعَصْرِ‏)‏‏.‏

فى قصة عبد القيس، حجة للشافعى فى أنه يقضى المرء بعد الصبح والعصر ما فاته من النوافل المعتادة كالفرائض المنسية، ولا يقول بذلك مالك، وأبو حنيفة، إلا أن مالكًا استحسن لمن لم يصل ركعتى الفجر أن يصليها بعد طلوع الشمس، واحتجوا على الشافعى فى ذلك بتواتر الآثار عن النبى أنه نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب، وأن عمر كان يضرب الناس على الصلاة بعد العصر بمحضر من الصحابة من غير نكير عليه، فدل أن صلاته عليه السلام، الركعتين بعد العصر خصوص له دون أمته‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ ومما يدل على ذلك ما أخبرنا به على بن شيبة، أخبرنا يزيد بن هارون، قال‏:‏ ثنا حماد بن سلمة، عن الأزرق بن قيس، عن ذكوان، عن أم سلمة قالت‏:‏ صلى الرسول العصر، ثم دخل بيتى، فصلى ركعتين، فقلت‏:‏ يا رسول الله، صليت صلاة لم تكن تصليها قال‏:‏ ‏(‏قدم علىَّ مال، فشغلنى عن ركعتين كنت أركعهما بعد الظهر، فصليتهما الآن‏)‏، قلت‏:‏ يا رسول الله، أفنقضيهما إذا فاتتانا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا‏)‏، فنهى عليه السلام فى هذا الحديث أن يصليهما أحد بعد العصر قضاء عما كان يصليه بعد الظهر، فدل ذلك على أن حكم غيره فيهما إذا فاتتا خلاف حكمه عليه السلام، فليس لأحد أن يصليهما بعد العصر، ولا أن يتطوع حينئذ أصلاً؛ لأن من فعل ذلك، فهو متطوع فى غير وقت تطوع‏.‏

وقال أصحاب الشافعى‏:‏ الأزرق بن قيس من الشيوخ، ولو صح حديثه لاحتمل التأويل، وذلك أن نهيه عليه السلام، عن قضائهما مما يدل أنه لا تجوز صلاتهما بعد العصر، وإنما نهى عن قضائهما على وجه الحتم والوجوب، وأما من شاء أن يتطوع بالصلاة ذلك الوقت رغبة فى الفضل، فله فى صلاته عليه السلام، بعد العصر أفضل الأسوة‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ إن أحاديث هذا الباب معارضة لنهيه عليه السلام، عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس، فكيف السبيل إلى الجمع بينهما‏؟‏‏.‏

قال الطبرى‏:‏ لا تعارض بينهما بحمد الله، ولها معانى صحيحة، وذلك أن للنهى وجوهًا‏:‏ منها الكراهة، ومنها العزم والتحريم، ولا سبيل لأمته إلى علم مراده منها إلا ببيانه عليه السلام، ولما لم يذكر فى ظاهر نهيه عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح دلالة لسامعه على معنى مراده منه، كان غير جائز ترك بيانه، فكانت صلاته التى صلاها بعد العصر تبيينًا منه لأمته أن نهيه على وجه الكراهة، لا على وجه التحريم، كتحريمه عند بروز حاجب الشمس للطلوع، وعند مغيب حاجبها للغروب، وإعلام منه لهم أن من صلى بعد العصر وبعد الصبح غير حرج ما لم يوافق وقت الطلوع والغروب‏.‏

وذلك نظير نهيه إياهم عن المزعفر بالزعفران واستعماله، وعن لبس المعصفر والأرجوان، ولبسه إياها إعلام منه لهم أنه نهيه عن ذلك على وجه الكراهية لا على وجه التحريم؛ لأنه لو كان على وجه التحريم كان أبعدهم من فعله؛ لأنه أتقاهم لله، وأشدهم له خشية‏.‏

فإن ظن ظان أن ذلك كان خاصًا له دون أمته، فقد ظن خطأ، وذلك أن ما خص الله به رسوله فغير جائز أن يكون غير مبين لأمته إما بنص التنزيل، أو بخبر يقطع العذر أنه خاص له؛ لأن الله قد ندب عباده إلى التأسى به، ولو جاز أن يكون فى أفعاله التى خص بها دون أمته ما لم يوقفهم عليه أنه خاص له، لم يجز لأحد التأسى به فى شىء من أفعاله حتى يأمرهم بها، وإذا كان ذلك كذلك بان صحة القول لمن نسى ركعتى الفجر، ثم ذكرهما بعد صلاة الصبح، أو نسى ركعتى الظهر، ثم ذكرهما بعدما صلى العصر، أن له أن يصليهما ما لم يبدُ حاجبُ الشمس للطلوع أو يتدلى للغروب، وأن لمن طاف بالبيت بعد الصبح أن يركع ركعتى الطواف ما لم يوافق الطلوع والغروب، وكذلك صلاة الجنازة، وصلاة الكسوف، وأن يجتنب فيما لم يخف فوته من ذلك تأخيره إلى غروبها أو طلوعها، وبذلك جاء الخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه فعل ذلك فى ركعتى الفجر، إذ نام عنهما، فقضاهما بعد ما طلعت الشمس، ولم ينكر على من فعلهما بعد طلوعها‏.‏

باب التَّبكيرِ بِالصَّلاةِ فِي يَوْمِ غَيْمٍ

- فيه‏:‏ بُرَيْدَةَ أنه قال فِي يَوْمٍ غَيْمٍ، فَقَالَ‏:‏ بَكِّرُوا بِالصَّلاةِ فَإِنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏مَنْ تَرَكَ صَلاةَ الْعَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ‏)‏‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ روى عن عمر بن الخطاب، أنه قال‏:‏ إذا كان يومُ غيم، فأخروا الظهر، وعجلوا العصر، وهو قول مالك‏.‏

وقال الحسن البصرى‏:‏ أخروا الظهر والمغرب، وعجلوا العصر والعشاء الآخر، وهو قول الأوزاعى، وقال الكوفيون‏:‏ يؤخر الظهر ويعجل العصر، ويؤخر المغرب ويعجل العشاء، وروى مطرف عن مالك أنه استحب تعجيل العشاء فى الغيم، وقال أشهب‏:‏ لا بأس بتأخيرها إلى ثلث الليل، وفيها قول آخر قاله ابن مسعود‏:‏ عجلوا الظهر والعصر وأخروا المغرب‏.‏

وقال المهلب‏:‏ لا يصح التبكير فى الغيم إلا بصلاة العصر والعشاء؛ لأنهما وقتان مشتركان مع ما قبلهما، ألا ترى أنهم يجمعونها فى المطر فى وقت الأولى منهما وهى سنة من الرسول، وقد مضى شىء من معنى هذا الباب فى باب ‏(‏من ترك العصر‏)‏‏.‏

باب الأذَانِ بَعْدَ ذَهَابِ الْوَقْتِ

- فيه‏:‏ أَبو قَتَادَةَ قَالَ‏:‏ ‏(‏سِرْنَا مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ‏:‏ لَوْ عَرَّسْتَ بِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ أَخَافُ أَنْ تَنَامُوا عَنِ الصَّلاةِ، قَالَ بِلالٌ‏:‏ أَنَا أُوقِظُكُمْ، فَاضْطَجَعُوا، وَأَسْنَدَ بِلالٌ ظَهْرَهُ إِلَى رَاحِلَتِهِ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَنَامَ، فَاسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ عليه السلام، وَقَدْ طَلَعَ حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَقَالَ‏:‏ يَا بِلالُ، أَيْنَ مَا قُلْتَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ مَا أُلْقِيَتْ عَلَيَّ نَوْمَةٌ مِثْلُهَا قَطُّ، قَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَكُمْ حِينَ شَاءَ، وَرَدَّهَا عَلَيْكُمْ حِينَ شَاءَ يَا بِلالُ، قُمْ فَأَذِّنْ بِالنَّاسِ بِالصَّلاةِ، فَتَوَضَّأَ النَّاسُ، فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ وَابْيَاضَّتْ، قَامَ فَصَلَّى‏)‏‏.‏

اختلف أهل العلم فى الأذان بعد ذهاب الوقت، فذهب أحمد بن حنبل، وأبو ثور إلى جواز ذلك، واحتجا بهذا الحديث، وقال الكوفيون‏:‏ إذا نسى صلاة واحدة، وأراد أن يقضيها من الغد، يؤذن لها ويقيم، فإن لم يفعل فصلاته تامة، وقال الثورى‏:‏ ليس عليه فى الفوائت أذان ولا إقامة، وقال محمد بن الحسن‏:‏ إن أذن فى الفوائت فحسن، وإن صلاهن بإقامة إقامة كما فعل الرسول يوم الخندق فحسن‏.‏

وقال مالك، والأوزاعى، والشافعى‏:‏ يقيم للصلوات الفوائت، ولم يذكروا أذانًا، واحتج هؤلاء بأن صلاته عليه السلام، يوم الخندق الفوائت كلها كان بغير أذان، وإنما أذن للعشاء الآخرة فقط؛ لأنها صليت فى وقتها، ولم تكن فائتة‏.‏

وفيه من الفقه‏:‏ أن النبى صلى الله عليه وسلم كان ينام أحيانًا كنوم الآدميين، وذلك فى النادر من حاله، وسأبين حكم نومه عليه السلام، عند قوله‏:‏ ‏(‏إن عينى تنام، ولا ينام قلبى‏)‏، فى باب قيام الرسول بالليل فى رمضان وغيره‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذا الحديث يدل أن الصلاة الوسطى صلاة الصبح، وإنما أكدت المحافظة عليها لأجل هذه العارضة التى عرضت للنبى باستيلاء النوم عليه، وعلى أهل عسكره حتى فاته وقتها، ويدل على أنها الوسطى‏:‏ توكيله بلالا فى السفر والحضر بمراقبة وقتها، ولم يأمره بمراقبة غيرها، ألا ترى أن النبى لم تفته صلاة غيرها بغير عُذرٍ شغله عنها‏.‏

قال غيره‏:‏ وقوله‏:‏ فاستيقظ وقد طلع حاجب الشمس، وتركه للصلاة حتى ابيضّت الشمس، فإن الكوفيون قالوا‏:‏ إنما أخَّر عليه السلام، الصلاة ذلك الوقت لما تقدم من نهيه عن الصلاة عند طلوع الشمس، وقال أصحاب مالك، والشافعى وغيرهم‏:‏ إنما أخر صلاته بمقدار ما توضأ الناس، وتأهبوا للصلاة، وفى ذلك المقدار ارتفعت الشمس‏.‏

وقد جاء هذا المعنى فى بعض طرق الحديث، ذكره فى كتاب الاعتصام فى باب‏:‏ المشيئة والإرادة، وقال فيه‏:‏ ‏(‏فقضوا حوائجهم، وتوضئوا إلى أن طلعت الشمس، وابيضّت، فقام فصلى‏)‏، وقد روى عطاء أن نبى الله إنما أمرهم بالخروج من ذلك الوادى على طريق التشاؤم به، وقال لهم‏:‏ ‏(‏اخرجوا من الوادى الذى أصابكم فيه الغفلة‏)‏، كما نهى عليه السلام، عن الصلاة فى أرض بابل، وحجر ثمود، وعن الوضوء بمائها، وهو مثل قوله فى حديث مالك، عن زيد بن سلم‏:‏ ‏(‏إن هذا واد به شيطان‏)‏، فكره الصلاة فى البقعة التى فيها الشيطان؛ إذ كان السبب لتأخير الصلاة عن وقتها، وقد روى جبير بن مطعم فى حديث نومه عن الصلاة، أنهم لم يستيقظوا حتى ضربهم حَرُّ الشمس‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقد قال ابن وهب، وعيسى بن دينار‏:‏ إن خروجهم من الوادى منسوخ بقوله‏:‏ ‏(‏وأقم الصلاة لذكرى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 14‏]‏، وهذا خطأ؛ لأن ‏(‏طه‏)‏ مكية، وقصة نومه عن الصلاة كان بالمدينة، ومما يدل على ذلك قول ابن مسعود‏:‏ بنو إسرائيل، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء، هن من العتق الأول، وهن من تلادى، يعنى أنهن من أول ما حفظه من القرآن واستفاده، و ‏(‏التلاد‏)‏ قديم ما يفيده الإنسان من المال وغيره‏.‏

وفى هذا الحديث حجة لقول مالك أنه قال‏:‏ من فاتته صلاة الصبح، أنه يصليها، ولا يركع ركعتى الفجر قبلها، قال أشهب‏:‏ وسئل مالك‏:‏ هل ركع الرسول صلى الله عليه وسلم ركعتى الفجر حين نام عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس‏؟‏ قال‏:‏ ما بلغنى، وقال أشهب‏:‏ بلغنى أنه صلى الله عليه وسلم ركع، وقال على بن زياد‏:‏ وقاله غير مالك، وهو أحب إلىّ أن يركع، وهو قول الكوفيين، والثورى، والشافعى قالوا‏:‏ يصلى ركعتى الفجر، ثم يصلى الفجر، وقد قال مالك‏:‏ إن أحب أن يركعهما من فاتته بعد طلوع الشمس فعل‏.‏

والتعريس‏:‏ النزول بالليل‏.‏

باب مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ جَمَاعَةً بَعْدَ ذَهَابِ الْوَقْتِ

- فيه‏:‏ جَابِرِ‏:‏ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ جَاءَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، قَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كِدْتُ أن أُصَلِّي الْعَصْرَ، حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا‏)‏، فَقُمْنَا إِلَى بُطْحَانَ، فَتَوَضَّأَ لِلصَّلاةِ، وَتَوَضَّأْنَا لَهَا، فَصَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ‏.‏

قال بعض أهل العلم‏:‏ لا أعلم خلافًا فى جواز جمع الصلاة بعد ذهاب الوقت، لمن فاتته بِعُذْرٍ بين كالنوم وشبهه إلا الليث بن سعد، فإنه قال فى القوم يفوتهم الصلاة أنهم يصلون فرادى، وهذا الحديث خلاف قوله، وحجة الجماعة‏.‏

واختلف أصحاب مالك فيمن فاتته الجمعة لعذر أو لغير عذر، فقال ابن القاسم‏:‏ كنت مع ابن وهب بالإسكندرية، فلم نأت الجمعة لأمر خفناه، ومعنا قوم، فكرهت أن أجمع بهم، وجمع بهم ابن وهب، فسألنا مالكًا عن ذلك فقال‏:‏ لا يجمع إلا المسافرون والمحبوسون والمرضى‏.‏

وقال الكوفيون‏:‏ لا يصلى الظهر جماعة فى المصر، وسواء كانوا مرضى أو محبوسين، وهو قول الثورى، وفى المجموعة عن ابن القاسم‏:‏ لا يجوز للمرضى والمسجونين الجمع، وروى عنه يحيى بن يحيى فى العتبية، فيمن خلفهم المطر عن الجمعة، فليجمعوا ظهرًا إن كان أمرًا غالبًا يُعذرون به كالمرض، وإن كان مطر ليس بمانع فجمعوا فليعيدوا، وقال أصبغ‏:‏ إن جمع المتخلفون بغير عذر أساءوا ولا يعيدون‏.‏

ولابن القاسم فى المجموعة مثله، وفيها لأشهب، وابن نافع أن المتخلفين يصلون الجمعة جماعة، وهو قول الليث والشافعى، وقال الليث‏:‏ فى مسجد أو غيره، ذكره الطحاوى، ولا فرق بين الجمعة وغيرها فى قياس ولا نظر إذا فاتت فى جواز جمعها بدليل هذا الحديث‏.‏

باب مَنْ نَسِيَ صَلاةً فَلْيُصَلِّها إِذَا ذَكَرَ وَلا يُعِيدُ إِلا تِلْكَ الصَّلاةَ

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ‏:‏ مَنْ نَسَى صَلاةً وَاحِدَةً عِشْرِينَ سَنَةً لَمْ يُعِدْ إِلا تِلْكَ الصَّلاةَ الْوَاحِدَةَ‏.‏

- وفيه‏:‏ أنس قَالَ‏:‏ ‏(‏مَنْ نَسِيَ صَلاةً فَلْيُصَلِّ، إِذَا ذَكَرَهَا لا كَفَّارَةَ لَهَا إِلا ذَلِكَ‏:‏ ‏(‏وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي‏}‏ ‏[‏طه 14‏]‏‏)‏‏.‏

اختلف العلماء‏:‏ إذا صلى صلاة، ثم ذكر بعد ذلك صلاة من يوم آخر، هل يعيد الصلاة التى صلى إذا بقى من وقتها شىء بعد قضاء الفائتة أم لا‏؟‏ فذكر ابن المنذر، عن طاوس، والحسن البصرى، والشافعى، وأبى ثور، أن من ذكر صلاة وهو فى صلاة أخرى، أنه يتم التى هو فيها، ثم يصلى الفائتة، ليس عليه غير ذلك، فقياس قوله‏:‏ ‏(‏إن ذكرها بعد أن فرغ منها‏)‏، أنه ليس عليه شىء أيضًا إلا إعادة المنسية فقط‏.‏

وقال مالك‏:‏ يصلى التى نسى، ثم يعيد ما كان فى وقته مما كان قد صَلاهُ، واستدل أهل المقالة الأولى، بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من نسى صلاة فليصل إذا ذكر‏)‏، ولم يقل‏:‏ فَلْيُعِدْ ما كان فى وقته، واحتج أصحاب الشافعى لقولهم بأن الترتيب إنما يجب فى صلاة يوم بعينه وجوب فرض وهذا إجماع، وأما فى الفوائت فلا يجب ذلك، استدلالاً بإجماع الأمة على أن رتبة رمضان فرض، فإذا أفطره أحد بمرض أو نسيان سقط عنه الترتيب، ولهذا نظائر كثيرة من القياس‏.‏

والحجة لقول مالك قوله‏:‏ ‏(‏وأقم الصلاة لذكرى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 14‏]‏، فدل هذا أن وقت الذكر وقت للصلاة المنسية، وإذا اجتمعت صلاتان فى وقت واحد فالواجب تقديم الأُولى، فاستدل مالك بآخر الحديث، واستدل الشافعى بأوله‏.‏

باب قَضَاءِ الصَّلاةِ الأولَى فَالأولَى

- فيه‏:‏ جَابِرِ‏:‏ جَعَلَ عُمَرُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ يَسُبُّ كُفَّارَهُمْ، فَقَالَ‏:‏ مَا كِدْتُ أُصَلِّي الْعَصْرَ حَتَّى غَرَبَتْ، قَالَ‏:‏ فَنَزَلْنَا بُطْحَانَ، فَصَلَّى بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ‏.‏

أجمع العلماء على الاستدلال بهذا الحديث، فقالوا‏:‏ من فاتته صلوات كثيرة، وأيقن أنه يقضيها، ويصلى التى حضر وقتها قبل فواتها، أنه يبدأ بالأُولى فالأُولى، واختلفوا‏:‏ إذا خشى فوت وقت الحاضرة إن بدأ بالمنسية، فقالت طائفة‏:‏ يبدأ بالتى ذكر فيصليها، وإن فاتته هذه، هذا قول عطاء، والزهرى، ومالك، والليث، واتفق مالك وأصحابه على أن حكم أربع صلوات فما دونه حكم صلاة واحدة يبدأ بهن، وإن خرج وقت الحاضرة، واختلفوا فى خمس صلوات، فحكى ابن حبيب، عن مالك أن خمسًا قليل يبدأ بهن وإن خرج وقت الحاضرة، وهو قول أبى حنيفة‏.‏

وذكر ابن سحنون، عن أبيه أن خمس صلوات كثيرة، يبدأ بالتى حضر وقتُها، وقالت طائفة‏:‏ يبدأ بالتى نسى إلا أن يخاف فوت التى حضر وقتها، فإن خاف ذلك صلاها، ثم صلى التى نسى، هذا قول ابن المسيب، والحسن البصرى، والأوزاعى، والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وعلة أهل هذا المقالة أنه إن بدأ بالمنسية، وفاته وقت الحاضرة، فقد اجتمع عليه فوتان، فوتُ الحاضرة مع فوت المنسية، ففوتٌ واحدٌ أحسنُ حالا من فوتينِ‏.‏

ووجه القول‏:‏ أنه يبدأ بالمنسية إن كانت خمسًا فدون، وإن فات وقت الحاضرة؛ لأن المنسية عندهم واجبة قبل صلاة الوقت، فإذا ذكرها اشتركت مع صلاة الوقت فى الوجوب، ولها حق التقدمة، فكأنها ظهر وعصر اجتمعا فى يوم واحد، فوجب أن يقدم الظهر وإن قدمت العصر وجب إعادتها؛ لأن الترتيب عندهم فى خمس صلواتٍ فدون من الفوائت وجوبُ سُنَّة، وإنما لم يجب الترتيب عندهم فى أكثر من خمس صلوات؛ لأنها مشتبهة بصلاة اليوم بعينه، ولو وجب فى أكثر من ذلك لوجب فى سنين كثيرة، وذلك ما لا يطاق عليه؛ لأنه لا سبيل إلى أن يقضى صلاة سنة أو أكثر فى يومين ولا ثلاثة، ولو تكلف ذلك أحد لترك أيام القضاء بغير صلوات، وهذا جهل من قائله، فلم يكن بُد من حد بين القليل والكثير فى ذلك‏.‏

وفى هذا الحديث رد على جاهل، انتسب إلى العلم وهو منه برىء، زعم أنه من ترك الصلاة عامدًا أنه لا يلزمه إعادتها‏.‏

واحتج بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها‏)‏، ولم يذكر العامد، فلم يلزمه القضاء، وإنما يقضيها الناسى والنائم فقط، وهذا ساقط من القول يئول إلى إسقاط فرض الصلاة عن العباد، وقد ترك الرسول يوم الخندق صلاة الظهر والعصر قاصدًا لتركها لشغله بقتاله العدو، ثم أعادها بعد المغرب‏.‏

ويقال له‏:‏ لمَّا أوجب النبى صلى الله عليه وسلم على الناسى النائم الإعادة، كان العامد أولى بذلك؛ لأن أقل أحوال الناسى سقوط الإثم عنه، وهو مأمور بإعادتها، والعامد لا يسقط عنه الإثم، فكان أولى أن تلزمه إعادتها، ولا يوجد فى شىء من مسائل الشريعة مسألة‏:‏ العامد فيها معذور، بل الأمر بضد ذلك لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إن الله تجاوز لأمتى عن الخطأ والنسيان‏)‏، فإذا تجاوز الله عن الناسى إثم تضييعه، وأمر بأداء الفرض، فكان العامد المنتهك لحدود الله غير ساقط عنه الإثم، بل الوعيد الشديد متوجه عليه، كان الفرض أولى ألا يسقط عنه ويلزمه قضاؤه، وقد أجمعت الأمة على أن من ترك يومًا من شهر رمضان عامدًا من غير عذر أنه يلزمه قضاؤه، فكذلك الصلاة، ولا فرق بين ذلك، والله الموفق‏.‏

باب مَا يُكْرَهُ مِنَ السَّمَرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ

- فيه‏:‏ أبو برزة‏:‏ أن الرسول صلى الله عليه وسلم كَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَ العشاء، وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا، وَكَانَ يَنْفَتِلُ مِنْ صَلاةِ الْغَدَاةِ، حِينَ يَعْرِفُ أَحَدُنَا جَلِيسَهُ‏)‏، فى حديث طويل‏.‏

قال المهلب‏:‏ إنما كره عليه السلام، السمر بعد العشاء، لئلا يزاحم بقية الليل بالنوم، فتفوته صلاة الصبح فى جماعة، وقال خَرَشَةُ بن الحُرِّ‏:‏ رأيت عمر بن الخطاب يضرب الناس على الحديث بعد العشاء، ويقول‏:‏ أسمرًا أول الليل ونومًا آخره‏؟‏‏.‏

وقال سلمان الفارسى‏:‏ إياكم وسمر أول الليل، فإنه مهدمة لآخره، فمن فعل ذلك فليصل ركعتين قبل أن يأوى إلى فراشه‏.‏

وكان إبراهيم، وابن سيرين، يكرهان الكلام بعد العشاء‏.‏

وأما السمر بالعلم والفقه، وأفعال الخير فجائز، قد فعله النبى صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، وسيأتى فى الباب بعد هذا إن شاء الله، وقد تقدم اختلافهم فى النوم قبل هذا فأغنى عن إعادته‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ إن قول أبى برزة‏:‏ ‏(‏وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف أحدُنا جليسه‏)‏، معارض لقول عائشة‏:‏ ‏(‏إن النساء كن ينصرفن من صلاة الفجر مع رسول الله وكن متلفعات بمروطهن لا يُعرفن من الغَلَسِ‏)‏‏.‏

قيل‏:‏ لا تعارض بينهما، وذلك أن تلفعهن وتسترهن بمروطهن مانع من معرفتهن، وكان الرجال يصلون ووجوههم بادية بخلاف زى النساء وهيئاتهن، وذلك غير مانع للرجل من معرفة جليسه، فلا تعارض بين شىء من ذلك بحمد الله‏.‏

باب السَّمَرِ فِي الْفِقْهِ وَالْخَيْرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ

- فيه‏:‏ قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ‏:‏ انْتَظَرْنَا الْحَسَنَ، وَرَاثَ عَلَيْنَا حَتَّى قَرُبْنَا مِنْ وَقْتِ قِيَامِهِ، فَجَاءَ فَقَالَ‏:‏ دَعَانَا جِيرَانُنَا هَؤُلاءِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ قَالَ أَنَسُ‏:‏ انْتَظَرْنَا الرسول صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ حَتَّى كَانَ شَطْرُ اللَّيْلِ يَبْلُغُهُ، فَجَاءَ فَصَلَّى لَنَا، ثُمَّ خَطَبَنَا، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَلا إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا، ثُمَّ رَقَدُوا، وَإِنَّكُمْ لَمْ تَزَالُوا فِي صَلاةٍ مَا انْتَظَرْتُمُ الصَّلاةَ‏)‏‏.‏

قَالَ الْحَسَنُ‏:‏ وَإِنَّ الْقَوْمَ لا يَزَالُونَ فى خَيْرٍ مَا انْتَظَرُوا الْخَيْرَ‏.‏

- وفيه‏:‏ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ‏:‏ صَلَّى النَّبِيُّ عليه السلام، صَلاةَ الْعِشَاءِ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ، قَامَ النَّبِيُّ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةٍ سنة لا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأرْضِ أَحَدٌ‏)‏، فَوَهِلَ النَّاسُ فِي مَقَالَةِ النبى إِلَى مَا يَتَحَدَّثُونَ فِى هَذِهِ الأحَادِيثِ عَنْ مِائَةِ سَنَةٍ، وَإِنَّمَا قَالَ الرسول‏:‏ ‏(‏لا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأرْضِ، يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهَا تَخْرِمُ ذَلِكَ الْقَرْنَ‏)‏‏.‏

وهذه الآثار تدل على أن السمر المنهى عنه بعد العشاء، إنما هو فيما لا ينبغى من الباطل واللغو، ألا ترى استدلال الحسن البصرى حين سمر عند جيرانه لمدارسة العلم، بسمر النبى إلى قرب من شطر الليل فى شغله بتجهيز الجيش، ثم خرج فصلى بالناس، ثم خطبهم مؤنسًا لهم من طول انتظارهم، ومعرفًا لهم ما يستحقون عليه من جزيل الأجر، فقال‏:‏ ‏(‏إنكم لن تزالوا فى صلاة ما انتظرتم الصلاة‏)‏، ومثل ذلك قوله‏:‏ ‏(‏إن رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد‏)‏، فأبان بفعله عليه السلام، أن السمر فى العلم والخير مرغب فيه‏.‏

وروى ابن أبى شيبة، عن أبى معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عمر، قال‏:‏ ‏(‏كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمر عند أبى بكر فى الأمر من أمور المسلمين، وأنا معه‏)‏، وروى ابن بكير، عن ابن لهيعة، عن ابن هبيرة، عن عبد الله بن رزين‏:‏ أن عليًا صلى بهم ذات ليلة العتمة، فقعدوا، واستفتوه حتى أذن بصلاة الصبح، فقال‏:‏ قوموا فأوتروا فإنا لم نوتر‏.‏

وكان ابن سيرين، والقاسم، وأصحابه يتحدثون بعد العشاء‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ يكره السمر بعد العشاء إلا لمصلٍ أو مسافرٍ أو دارسٍ علم‏.‏

وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إنكم لن تزالوا فى صلاة ما انتظرتموها‏)‏‏:‏ تعليم منه لهم للعلم، وكذلك إعلامه لهم أن رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد، إعلام منه لهم أن أعمار أمته ليست بطول أعمار من تقدم من الأمم السالفة، ليجتهدوا فى العمل، وقد بيَّن ذلك فى حديث آخر، فقال‏:‏ ‏(‏أعمار أمتى من الستين إلى السبعين وأقلهم من يجاوز ذلك‏)‏‏.‏

وأما قول أنس بن مالك‏:‏ ‏(‏انتظرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان شطر الليل يبلغه‏)‏، فهكذا وقع هذا الكلام فى جميع النسخ، وقد روى جابر بن عبد الله هذا الحديث بنحو هذا المساق، وكشف فيه صواب اللفظ، وذكر فيه الشغل الذى منعه من الخروج إلى الصلاة، وهو أنه اشتغل بتجهيز جيش، رواه الأعمش، عن أبى سفيان، عن جابر، قال‏:‏ ‏(‏جهز رسول الله ذات ليلة جيشًا، حتى قرب نصف الليل أو بلغه‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، وذكر هذا الحديث، وقد ذكرته بتمامه فى باب فضل العشاء، فأبان هذا اللفظ معنى حديث أنس، وتقدير الكلام فيه‏:‏ حتى كان شطر الليل، أو كاد فى أخرى يبلغه، والعرب قد تحذف ‏(‏كاد‏)‏ كثيرًا من كلامها لدلالة الكلام عليه، كقولهم فى‏:‏ أظلمت الشمس، كادت تظلم‏.‏

قال الشاعر‏:‏

يتعارضون إذا التقوا فى موطن *** نظرًا يزيل مواطئ الأقدام

فلم يقل يكاد يزيل، ولكنه نواها فى نفسه، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبلغت القلوب الحناجر‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 10‏]‏، أى كادت من شدة الخوف تبلغ الحلوق، ذكره ابن قتيبة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فوهل الناس‏)‏، قال صاحب ‏(‏الأفعال‏)‏‏:‏ وهل إلى الشىء وَهْلا‏:‏ ذهب وهمه إليه، ويقال‏:‏ كلمت فلانًا وما ذهب وَهَلى إلا إلى فلان، وما وَهَلت إلا إليه، من العين‏.‏

باب السَّمَرِ مَعَ الأهْلِ والضَّيْفِ

- فيه‏:‏ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ‏:‏ أَنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ، كَانُوا أُنَاسًا فُقَرَاءَ، وَأَنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ، فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ، وَإِنْ أَرْبَعٌ فَخَامِسٌ أَوْ سَادِسٌ‏)‏، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ جَاءَ بِثَلاثَةٍ، فَانْطَلَقَ النَّبِيُّ عليه السلام، بِعَشَرَةٍ، قَالَ‏:‏ فَهُوَ أَنَا، وَأَبِي، وَأُمِّي، وَلا أَدْرِي هل قَالَ‏:‏ وَامْرَأَتِي، وَخَادِمٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ، ثم إن أَبَا بَكْرٍ تَعَشَّى عِنْدَ الرسول، ثُمَّ لَبِثَ حَيْثُ صُلِّيَتِ الْعِشَاءُ، ثُمَّ رَجَعَ فَلَبِثَ حَتَّى تَعَشَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ بَعْدَ مَا مَضَى مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ، قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ‏:‏ مَا حَبَسَكَ عَنْ أَضْيَافِكَ- أَوْ قَالَتْ‏:‏ ضَيْفِكَ- قَالَ‏:‏ أَوَمَا عَشَّيْتِهِمْ، قَالَتْ‏:‏ أَبَوْا، حَتَّى تَجِيءَ، قَدْ عُرِضُوا فَأَبَوْا، قَالَ‏:‏ فَذَهَبْتُ أَنَا، فَاخْتَبَأْتُ، فَقَالَ‏:‏ يَا غُنْثَرُ، فَجَدَّعَ وَسَبَّ، وَقَالَ‏:‏ كُلُوا لا هَنِيئًا، فَقَالَ‏:‏ وَاللَّهِ لا أَطْعَمُهُ أَبَدًا، وَأيْمُ اللَّهِ، مَا كُنَّا نَأْخُذُ مِنْ لُقْمَةٍ إِلا رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا، قَالَ‏:‏ فشَبِعُوا، وَصَارَتْ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ فَإِذَا هِيَ كَمَا هِيَ أَوْ أَكْثَرُ، فَقَالَ لامْرَأَتِهِ‏:‏ يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ مَا هَذَا‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ لا، وَقُرَّةِ عَيْنِي، لَهِيَ الآنَ أَكْثَرُ مِنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِثَلاثِ مَرَّاتٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ‏:‏ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ- يَعْنِي يَمِينَهُ- ثُمَّ أَكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً، ثُمَّ حَمَلَهَا إِلَى النَّبِيِّ عليه السلام، فَأَصْبَحَتْ عِنْدَهُ، وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ عَقْدٌ، فَمَضَى الأجَلُ، فَفَرَّقَنَا اثْنَى عَشَرَ رَجُلا مَعَ كُلِّ رَجُلٍ، مِنْهُمْ أُنَاسٌ، اللَّهُ أَعْلَمُ كَمْ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ، فَأَكَلُوا مِنْهَا أَجْمَعُونَ، أَوْ كَمَا قَالَ‏.‏

فيه‏:‏ السمر مع الأضياف، كما ترجم وهذا كما قدمنا من السمر فى المباح وطلب الفضيلة؛ لأن تلك كانت أخلاقهم وأحوالهم، فلا يجوز السمر إلا فى مثل ذلك من طلب الأجر، والمباح‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه أن للسلطان إذا رأى بقوم مسغبةً أن يفرقهم على أهل الوجود بقدر ما لا يجحف بهم، ألا ترى أن من كان عنده طعام اثنين ذهب بثالث‏.‏

قال غيره‏:‏ وهذا على سنته فى قوله، عليه السلام‏:‏ ‏(‏طعام الاثنين كافى الثلاثة‏)‏، والكفاية غير الاتساع فى الشبع‏.‏

قال المهلب‏:‏ ومن هذا أخذ عمر بن الخطاب فعله فى عام الرمادة، إذ كان يلقى على أهل كل بيت مثلهم من الفقراء، ويقول‏:‏ لن يهلك امرؤ على نصف قوته‏.‏

قال غيره‏:‏ وإنما فعله عمر لأن الضرورة كانت عام الرمادة أشد، وقد تأول سفيان بن عيينة فى المواساة فى المساغب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 111‏]‏، ومعناه‏:‏ أن المؤمنين تلزمهم القربة فى أموالهم لله تعالى، عند توجه الحاجة إليهم، ولهذا قال كثير من العلماء‏:‏ إن فى المال حقوقًا سوى الزكاة، وإنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الاثنين واحدًا، وعلى الأربعة واحدًا، وعلى الخمسة واحدًا، ولم يجعل على الأربعة والخمسة بإزاء ما يجب للاثنين مع الثالث، والله أعلم؛ لأن صاحب العيال أولى أن يرفق به، وضيق معيشة الواحد والاثنين أرفق بهم من ضيق معيشة الجماعات‏.‏

وفيه‏:‏ أكل الصديق عند صديقه، وإن كان عنده ضيف، إذا كان فى داره من يقوم بخدمتهم ومؤنتهم‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه أن الولد والأهل يلزمهم من التحفل بأمور الضيف، مثل ما يلزم صاحب المنزل‏.‏

وفيه‏:‏ أن للرجل أن يسب أهله وولده على تقصيرهم ببر أضيافه وأن يغضب لذلك‏.‏

وفيه‏:‏ أن الأضياف، ينبغى لهم أن يتأدبوا، وينتظروا صاحب الدار، ولا يتهافتوا على الطعام دونه‏.‏

قال غيره‏:‏ وفيه جواز أكل الأضياف دون صاحب الدار إذا حان الطعام؛ لأن تأنيب أبى بكر لأهله يدل أن الضيف أولى بذلك من رب الدار‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه أن من حلف على شىء ورأى غيره خيرًا منه أنه يحنث نفسه، ويأتى الذى هو خير منه، ويكفر يمينه، ومن الخير‏:‏ الأكل من طعام ظهرت فيه البركة، وقد نهى الرسول عن الأيمان فى ترك البر والتقوى وفعل الخير، فمن هاهنا حنث رسول الله صلى الله عليه وسلم والصالحون أنفسهم، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 224‏]‏، فحنث رسول الله نفسه فى الشراب الذى شربه فى بيت زوجته، وحنث أبو بكر أيضًا نفسه فى قصة مسطح‏.‏

وفيه‏:‏ رفع ما يُرجى بركته، وإهداؤه لأهل الفضل، كرفع أبى بكر بقية الطعام المبارك إلى رسول الله وإلى من بحضرته‏.‏

وفيه‏:‏ أن آثار الرسول صلى الله عليه وسلم قد تظهر على يدى غير النبى لبركة النبى عليه السلام، فتصح المعجزة منها فى زمانه، وتجوز فى غير زمانه من ذلك ما ليس بخرق عادة‏.‏

وقول أبى بكر‏:‏ ‏(‏كُلوا لا هنيئًا‏)‏ إنما خاطب بذلك أهله لا أضيافه‏.‏

وفيه‏:‏ أن الصديق الملاطف يجمل منه أن يهدى إلى الجليل من إخوانه يسير الهدية‏.‏

وقولها‏:‏ ‏(‏قد عُرضوا‏)‏ يريد أن خادم أبى بكر وابنه ومن رتب لخدمة الأضياف عرضوا الطعام على أضيافهم، فأبوا من أكله إلا بحضرة أبى بكر، وقد جاء هذا المعنى منصوصًا فى بدء الخلق فى باب‏:‏ علامات النبوة فى الإسلام فى هذا الكتاب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏يا غُنْثَرُ‏)‏ هو من قول العرب‏:‏ رجل أَغْثَر‏:‏ أحمق، من ابن دريد، والغَثْرَاء‏:‏ سفلة الناس وغوغاؤهم، فبنى فنعلا من أغثر على المبالغة فى السَّبِّ من هذا المعنى، وفنعل موجود فى اللغة، كقولهم‏:‏ جندب وقنفذ، عن الأخفش‏.‏

وقال الخطابى‏:‏ غنثر مأخوذ من الغثارة، وهى الجهل، يقال‏:‏ رجل غثر وأغثر إذا كان جاهلاً، وامرأة غثراء، وفى فلان غثارة، والنون فى الغنثر زائدة، وإنما سميت الضبع غثرًا لحمقها، وحكى بعض أهل اللغة الغنثرة‏:‏ شرب الماء من غير عطش، رواه الخطابى من طريق محمد بن المثنى، عن سالم بن نوح العطار، عن الجريرى، عن أبى عثمان، عن عبد الرحمن ابن أبى بكر‏:‏ يا عنتر، والعنتر‏:‏ الذباب، شبهه به تصغيرًا له وتحقيرًا لقدره، وحكى العنتر‏:‏ الذباب، ثعلب، عن ابن الأعرابى، وقال‏:‏ إنما سمى عنترًا لصوته، وقال غيره‏:‏ العنتر‏:‏ الأزرق من الذباب‏.‏

قال المؤلف‏:‏ والمحفوظ عن الرواة‏:‏ يا غنثر، بالغين المعجمة بنقطة من فوقها، وقوله‏:‏ ‏(‏فجدَّع‏)‏، يعنى تنقص وعاب أصل الجدع فى اللغة‏:‏ القطع، يقال‏:‏ جدعت الأنف وغيره قطعته‏.‏

باب بَدْءُ الأذَان

وَقَوْلُهُ تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا‏}‏ ‏[‏المائدة 58‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ‏}‏ ‏[‏الجمعة 9‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ أنس‏:‏ قَالَ‏:‏ ذَكَرُوا النَّارَ وَالنَّاقُوسَ، فَذَكَرُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، فَأُمِرَ بِلالٌ أَنْ يَشْفَعَ الأذَانَ، وَأَنْ يُوتِرَ الإقَامَةَ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنَ عُمَرَ قال‏:‏ كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَجْتَمِعُونَ، فَيَتَحَيَّنُونَ الصَّلاةَ، لَيْسَ يُنَادَى لَهَا، فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمِ‏:‏ اتَّخِذُوا نَاقُوسًا مِثْلَ نَاقُوسِ النَّصَارَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ بَلْ بُوقًا مِثْلَ قَرْنِ الْيَهُودِ، فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ أَفَلاَ تَبْعَثُونَ رَجُلا يُنَادِي بِالصَّلاةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يَا بِلالُ قُمْ فَنَادِ بِالصَّلاةِ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى وجوب الأذان، فعند مالك، وأبى حنيفة، والشافعى‏:‏ الأذان سنة، وقال عطاء، ومجاهد‏:‏ الأذان فرض، وهو قول الأوزاعى، واحتجوا بأن النبى، عليه السلام، أمر بلالاً أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة، وأمره على الوجوب، وحجةُ أهل المقالة الأولى أن أصل الأذان إنما يكون عن رؤيا رآها عبد الله بن زيد، فأصبح إلى النبى فأخبره برؤياه، فبينا هو يقصها إذ جاء عمر فقال‏:‏ والله لقد رأيته مثل الذى رأى، فقال عليه السلام لعبد الله ابن زيد‏:‏ ‏(‏قم فألق على بلال فإنه أندى منك صوتًا‏)‏، من رواية أهل المدينة والكوفة‏.‏

فأما رواية أهل المدينة فرواية ابن إسحاق، عن الزهرى، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الله بن زيد، عن أبيه مثله، وأما رواية أهل الكوفى فرواية شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبى ليلى قال‏:‏ حدثنا أصحاب محمد‏:‏ أن عبد الله بن زيد أُرى الأذان فى المنام، فأتى النبى عليه السلام، فأخبره، فقال‏:‏ ‏(‏عَلِّمه بلالاً‏)‏‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ فكان أصل الأذان عن رؤيا ومشورة، ولو كان واجبًا لابتدأه الرسول ولم يأخذه عن منام أحد، فإن قيل‏:‏ فإن الأمر وإن جرى كذلك فقد يحصل واجبًا بعد ذلك، ألا ترى أن نبى الله حكم سعدًا فى سبى بنى قُريظة فكان حكمه واجبًا بعد ذلك، ألا ترى أن نبى الله حكم سعدًا فى سبى بنى قريظة فكان حكمه واجبًا، ومعاذًا تبع الرسول فى صلاةٍ ثم مضى، فقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏سن لكم معاذ سنة فاتبعوها‏)‏‏.‏

قيل‏:‏ إن معاذًا وسعدًا لا يجوز أن يفعلا شيئًا بين يدى النبى إلا عن أمر ظهر لهما من دينه عليه السلام، بدلالة نصبها لهما، وليس كذلك الأذان إنما كان عن رؤيا، وأما قوله‏:‏ ‏(‏أُمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة‏)‏، فليس فى ظاهره إيجاب ولا ندب، وإنما هو للشفع والوتر، وهل الأصل واجب أم لا‏؟‏، يحتاج إلى دلالة، والرسول قد يأمر بصفات فى السنة، ولا يدل أنها واجبة، بل إذا فعلت ودخل فيها وجب أن تفعل بصفاتها‏.‏

باب الأذَانُ مَثْنَى مَثْنَى

- فيه‏:‏ أَنَسٍ قَالَ‏:‏ ‏(‏أُمِرَ بِلالٌ أَنْ يَشْفَعَ الأذَانَ، وَأَنْ يُوتِرَ الإقَامَةَ، إِلا الإقَامَةَ‏)‏‏.‏

- ورواه خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ أَبِي قِلابَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ولم يقل فيه إلا الإقامة‏.‏

اختلف العلماء فى صفة الأذان، فقال مالك، والليث، وأبو يوسف‏:‏ الأذان مثنى مثنى، وأوله‏:‏ ‏(‏الله أكبر، الله أكبر‏)‏، مرتين، وقال أبو حنيفة، والثورى، والشافعى‏:‏ الأذان مثنى مثنى، وأوله‏:‏ ‏(‏الله أكبر، الله أكبر‏)‏، أربع مرات، واحتج هؤلاء بروايات رويت فى حديث أبى محذورة، وعبد الله بن زيد فيها‏:‏ ‏(‏الله أكبر، الله أكبر‏)‏، أربع مرات، قالوا‏:‏ وهى زيادة يجب قبولها‏.‏

واحتج أهل المقالة الأولى بأنه قد روى من طرق صحاح فى أذان أبى محذورة وعبد الله ابن زيد‏:‏ ‏(‏الله أكبر‏)‏ مرتين، وكذلك فى أذان سعد القرظ، قالوا‏:‏ فلما وردت الآثار على هذا الاختلاف، ورأينا أهل المدينة يعملون‏:‏ خلفهم عن سلفهم على المرتين لا يزيدون عليها، وينقلونه نقلاً متواترًا يقطع العذر، سقط معه حكم الزائد، وقول أنس‏:‏ ‏(‏أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة‏)‏، حجة فى ذلك أيضًا؛ لأن شفع الأذان تثنية، وإذا قال‏:‏ الله أكبر أربع مرات، فقد خالف الخبر بذلك، ولم يشفع الأذان كله، ولم يكن هناك خبر يعضد عملهم، فكان عملهم أقوى من كل شىء يرد من طريق خبر الواحد؛ لأن الأذان مما يتكرر كل يوم خمس كرات، ولا يؤخذ قياسًا، علمنا أنهم علموا ذلك من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فوجب الرجوع إلى ما هم عليه كما رجع من خالفهم إلى صاعهم ومُدِّهم‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ الاختلاف فى هذه الآثار كلها يدل على الإباحة، فمن شاء أن يؤذن بكل ما روى منها؛ لأنه قد ثبت عن الرسول جميع ذلك، كما المتوضئ بالخيار، إن شاء توضأ مرة مرة، وإن شاء مرتين مرتين، هذا قول أحمد، وإسحاق، والطبرى‏.‏

باب الإقَامَةُ وَاحِدَةٌ إِلا قَوْلَهُ ‏(‏قَدْ قَامَتِ الصَّلاةُ

- فيه‏:‏ أَنَسِ قَالَ‏:‏ أُمِرَ بِلالٌ أَنْ يَشْفَعَ الأذَانَ، وَأَنْ يُوتِرَ الإقَامَةَ، قَالَ إِسْمَاعِيلُ‏:‏ فَذَكَرْتُ لأيُّوبَ، فَقَالَ‏:‏ إِلا الإقَامَةَ‏.‏

اختلف العلماء فى الإقامة فقال مالك، وأهل الحجاز، والأوزاعى‏:‏ الإقامة فرادى، وبه قال أحمد، وإسحاق، وقال الشافعى‏:‏ الإقامة فرادى إلا قوله‏:‏ ‏(‏قد قامت الصلاة‏)‏، فإنه يقولها مرتين، وفى مختصر ابن شعبان مثله‏.‏

قال الثورى، وسائر الكوفيين‏:‏ الإقامة مثنى مثنى كلها مثل الأذان، واحتجوا بما رواه هشام، عن عامر الأحول، عن مكحول، عن ابن محيريز، عن أبى محذورة أن الإقامة مثنى مثنى، قالوا‏:‏ وهو قول على بن أبى طالب وأصحاب ابن مسعود‏.‏

وحجةُ الشافعى ما رواه أيوب من قوله‏:‏ إلا الإقامة فهى شفع، قال‏:‏ ويبين ذلك ما رواه شعبة عن أبى جعفر الفراء، عن مسلم، مؤذن كان لأهل الكوفة، عن ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏كانت الإقامة على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم مرة مرة، غير أنه إذا قال‏:‏ قد قامت الصلاة، قالها مرتين‏)‏‏.‏

واحتج أهل المقالة الأولى بما رواه خالد الحذاء عن أبى قلابة، عن أنس قال‏:‏ ‏(‏أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة‏)‏‏.‏

قال أبو محمد الأصيلى‏:‏ وقوله‏:‏ ‏(‏إلا الإقامة‏)‏، هو من قول أيوب وليس من الحديث، قال ابن القصار‏:‏ وكذلك رواه ابن جريج، عن عطاء، عن أبى محذورة‏:‏ ‏(‏أن الرسول علمه الأذان شفعًا والإقامة وترًا‏)‏، ومثله فى رواية عبد الله بن زيد، وسعد القرظ، فإن قال الشافعى‏:‏ قول أيوب‏:‏ إلا الإقامة زيادة فى الحديث والزيادة يجب قبولها، قيل‏:‏ الزائد أولى ما لم يعارض ما هو أقوى منه، وذلك عمل أهل المدينة وإجماعهم خلف عن سلف على إفراد الإقامة، ومحال أن يذهب عليهم شىء من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم مما يجرى فى اليوم والليلة خمس مرات ويعلمه غيرهم، ولو صحت زيادة أيوب وما رواه الكوفيون من تثنية الإقامة؛ لجاز أن يكون ذلك فى وقتٍ ما، ثم ترك لعمل أهل المدينة على الآخر الذى استقر الأمر عليه، ولا يجوز أن يظن بهم أنه خالفوا ولا قصدوا العناد، وبمثل هذا احتج ابن القصار على من خالف مالكًا فى كثير من المسائل، فاحتج بنقلهم وفعلهم فى ترك الزكاة فى الخضر والأجناس بالمد والصاع على من خالفهم‏.‏

باب فَضْلِ التَّأْذِينِ

- فيه‏:‏ أَبو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ، وَلَهُ ضُرَاطٌ، حَتَّى لا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإِذَا قَضَى النِّدَاءَ، أَقْبَلَ، حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلاةِ، أَدْبَرَ، حَتَّى إِذَا قَضَى التَّثْوِيبَ أَقْبَلَ، حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ‏:‏ اذْكُرْ كَذَا، اذْكُرْ كَذَا، لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لا يَدْرِي كَمْ صَلَّى‏)‏‏.‏

فى هذا الحديث عظم فضل الأذان، وأن الشيطان ينافره ما لا ينافر سائر الذكر، ألا ترى أنه يقبل عند قراءة القرآن ويدبر عند الأذان، وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه قال‏:‏ إذا تغولت لكم الغيلان فأذنوا‏.‏

وحكى مالك أن زيد بن أسلم استعمل على معذرٍ من معاذر بنى سليم كان انقطع عمله لما يتخيل فيه من الجن، فأمرهم زيد أن يؤذنوا فيه، ففعلوا ذلك فما تخيل لهم بعد ذلك جن، قال مالك‏:‏ وأعجبنى ذلك من رأى زيد بن أسلم‏.‏

فاختلف العلماء فى معنى هروبه عند الأذان ولا يهرب من الصلاة وفيها قراءة القرآن، فقال المهلب‏:‏ إنما يهرب، والله أعلم، من اتفاق الكل على الإعلان بشهادة التوحيد وإقامة الشريعة كما يفعل يوم عرفة لما يرى من اتفاق الكل على شهادة التوحيد لله تعالى، وتنزل الرحمة عليهم، وييئس أن يردهم عما أعلنوا به من ذلك، وأيقن بالخيبة بما تفضل الله عليهم من ثواب ذلك، ويذكر معصية الله ومضادته أمره فلم يملك الحديث لما استولى عليه من الخوف‏.‏

وقال غيره‏:‏ إنما ينفر عن التأذين لئلا يشهد لابن آدم بشهادة التوحيد لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شىء إلا شهد له يوم القيامة‏)‏، وليس قول من قال‏:‏ إنما ينفر من الأذان لأنه دعا إلى الصلاة التى فيها السجود الذى أباهُ بشىء؛ لأنه قد أخبر عليه السلام، أنه إذا قضى التثويب أقبل يُذَكِّرُه ما لم يَذْكُرْ، يخلط عليه صلاته، وكان فراره من الصلاة التى فيها السجود أولى لو كان كما زعموا‏.‏

وروى ابن أبى شيبة، عن أبى معاوية، عن الأعمش، عن أبى سفيان، عن جابر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا نادى المنادى بالأذان هرب الشيطان حتى يكون بالروحاء، وهى ثلاثون ميلاً من المدينة‏)‏، وذكر ابن سفيان، عن سعيد بن المسيب، قال‏:‏ بلغنا أنه إن خرج من المسجد بين الأذان والإقامة أنه سيصاب بمصيبة‏.‏

وذكر عن أبى هريرة أنه كان فى المسجد فأذن المؤذن فخرج رجل، فقال أبو هريرة‏:‏ ‏(‏أما هذا فقد عصى الله ورسوله، أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمعنا الأذان ألا نخرج حتى نصلى‏)‏، ويحتمل أن يكون معنى هذا النهى، والله أعلم، لئلا يشبه فعل الشيطان فى هروبه لئلا يسمع النداء‏.‏

وقال الطبرى‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏إذا ثُوبّ بالصلاة‏)‏، يعنى صرخ بالإقامة مرة بعد مرة أخرى، ورجع، وكل مردد صوتًا فهو مثوب، ولذلك قيل للمرجع صوته فى الأذان بقوله‏:‏ ‏(‏الصلاة خير من النوم‏)‏، مُثوِّبَ وأصله من ثاب يثوب، إذا رجع إليه، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ جعلنا البيت مثابة للناس‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 125‏]‏، يعنى أنهم إذا انصرفوا منه رجعوا إليه‏.‏

وجمهور العلماء على أن الإقامة للصلاة سنة، ولا خلاف بينهم أن قول المؤذن فى نداء الصبح ‏(‏الصلاة خير من النوم‏)‏، يقال له‏:‏ تثويب، وروى هشيم، عن ابن عون، عن محمد بن سيرين، عن أنس قال‏:‏ ما كان التثويب إلا فى صلاة الغداة إذا قال المؤذن‏:‏ حى على الفلاح، قال‏:‏ الصلاة خير من النوم‏.‏

وقال ابن الأنبارى‏:‏ إنما سمى ‏(‏الصلاة خير من النوم‏)‏ تثويبًا؛ لأنه دعاء ثانٍ إلى الصلاة وذلك أنه لما قال‏:‏ حى على الصلاة، حى على الفلاح، وكان هذا دعاء ثم عاد فقال‏:‏ الصلاة خير من النوم، دعا إليها مرة أخرى‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ الأصل فى التثويب أن الرجل إذا جاء فزعًا أو مستصرخًا لوح بثوبه، فكان ذلك كالدعاء والإيذان، ثم كثر ذلك حتى سمى الدعاء تثويبًا، قال ذو الرمة‏:‏ وإن ثوب الداعى بها يال خندف والعامة لا تعرف التثويب فى الأذان إلا قول المؤذن فى الفجر ‏(‏الصلاة خير من النوم‏)‏، وإنما سمى بذلك؛ لأن المؤذن يرجع إليه مرة بعد أخرى، يقال‏:‏ ثابت إلى المريض نفسه‏:‏ رجعت إليه قوته، وثاب إلى المرء عقله، ومنه اشتق الثواب وتأويله‏:‏ ما يئول إليك من فضل الله وجزاء الأعمال الصالحة، ومنه سميت المرأة ثيبًا، أنها تثوب إلى أهلها من بيت زوجها‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وقد كره قوم أن يقال فى نداء الصبح‏:‏ ‏(‏الصلاة خير من النوم‏)‏، واحتجوا بحديث عبد الله بن زيد فى صفة الأذان وليس فيه ذلك، وخالفهم جمهور الفقهاء واستحبوا ذلك، واحتجوا بما رواه ابن جريج قال‏:‏ أخبرنى عثمان بن السائب، عن أم عبد الملك بن أبى محذورة، عن أبى محذورة‏:‏ ‏(‏أن الرسول صلى الله عليه وسلم علمه فى نداء الصبح‏:‏ الصلاة خير من النوم مرتين‏)‏، ورواه أبو بكر بن عياش، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبى محذورة مثله، وقد قال أنس، وابن عمر‏:‏ إنه كان التثويب فى نداء الصبح‏:‏ الصلاة خير من النوم مرتين بعد قوله‏:‏ حى على الفلاح‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقوله‏:‏ ‏(‏اذكر كذا لِمَا لم يكن يذكر‏)‏ ليسهيه عن صلاته‏.‏

فيه من الفقه‏:‏ أن من نسى شيئًا وأراد أن يتذكره فليصل ويجهد نفسه فيها من تخليص الوسوسة وأمور الدنيا، فإن الشيطان لابد أن يحاول تسهيته وإذكاره أمور الدنيا؛ ليصده عن إخلاص نيته فى الصلاة‏.‏

وقد روى عن أبى حنيفة‏:‏ أن رجلاً دفن مالاً، ثم غاب عنه سنين كثيرة، ثم قدم فطلبه فلم يهتد لمكانه، فقصد أبا حنيفة فأعلمه بما دار له فقال له‏:‏ صل فى جوف الليل وأخلص نيتك لله تعالى، ولا تجد على قلبك شيئًا من أمور الدنيا، ثم عرفنى بأمرك، ففعل فذكر فى الصلاة مكان المال، فلما أصبح أتى أبا حنيفة فأعلمه بذلك، فقال بعض جلسائه‏:‏ من أين دللته على هذا، يرحمك الله‏؟‏ فقال‏:‏ استدللت من هذا الحديث وعلمت أن الشيطان سيرضى أن يذكره موضع ماله ويمنعه الإخلاص فى صلاته، فعجب الناس من حسن انتزاعه واستدلاله‏.‏

باب رَفْعِ الصَّوْتِ بِالنِّدَاءِ

وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ‏:‏ أَذِّنْ أَذَانًا سَمْحًا، وَإِلا فَاعْتَزِلْنَا‏.‏

- فيه‏:‏ أَبو سَعِيدٍ أَنَّ الرَسُول صلى الله عليه وسلم قَالَ لَه‏:‏ ‏(‏إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ، فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ، فَأَذَّنْتَ بِالصَّلاةِ، فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ، فَإِنَّهُ لا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلا إِنْسٌ وَلا شَيْءٌ إِلا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ أن الشغل بالبادية واتخاذ الغنم من فعل السلف الصالح الذى ينبغى لنا الاقتداء بهم، وإن كان فى ذلك ترك للجماعات ففيه عزلة عن الناس، وبُعد عن فتن الدنيا وزخرفها، وقد جاء أن الاعتزال للناس عند تغير الزمان وفساد الأحوال مرغب فيه، وروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمًا يتبع بها شعف الجبال ومواضع القطر، يفر بدينه من الفتن‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه فضل الإعلان بالسنن وإظهار أمور الدين، وإنما أمره برفع صوته بالنداء ليسمعه من بعد منه فيكثر الشهداء له يوم القيامة، وقد اختلف فى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏ولا شىء إلا شهد له يوم القيامة‏)‏، فقالت طائفة‏:‏ الحديث على العموم فى كل شىء، وجعلوا الجمادات وغيرها سامعة وداخلة فى معنى هذا الحديث‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ لا يراد بالحديث إلا من يجوز سماعه من الجن والإنس والملائكة وسائر الحيوان، قالوا‏:‏ والدليل على ذلك أنه لم يذكر إلا الجن والإنس ثم قال‏:‏ ‏(‏ولا شىء‏)‏، يريد من صنف الحيوان السامع والملائكة والحشرات والدواب‏.‏

ولا يمتنع أن الله، تعالى، يقدر يسمع الجمادات، لكنا لا نقول ذلك مع جوازه إلا بخبر لا يحتمل التأويل، وليس فى هذا الحديث ما يقطع به على هذا المعنى، وقول عمر لمؤذنه‏:‏ ‏(‏أذن أذانًا سمحًا وإلا فاعتزلنا‏)‏، إنما نهاه عن التطريب فى أذانه والخروج عن الخشوع، وروى ابن أبى شيبة قال‏:‏ حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عمرو، عن سعيد‏:‏ ‏(‏أن مؤذنًا أذن فطرب فى أذانه فقال له عمر‏:‏ أذن أذانًا سمحًا وإلا فاعتزلنا‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ أن الأذان للمنفرد مرغب فيه مندوب إليه، وقد روى عن الرسول أنه قال‏:‏ ‏(‏من أذن فى أرض فلاة، وأقام وحده، صلى وراءه من الملائكة أمثال الجبال‏)‏‏.‏

باب مَا يُحْقَنُ بِالأذَانِ مِنَ الدِّمَاءِ

- فيه‏:‏ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قال‏:‏ ‏(‏أَنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا غَزَا بِنَا قَوْمًا لَمْ يَغْزُ بِنَا حَتَّى يُصْبِحَ، وَيَنْظُرَ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا كَفَّ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ عَلَيْهِمْ، فَخَرَجْنَا إِلَى خَيْبَرَ فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِمْ لَيْلا، فَلَمَّا أَصْبَحَ وَلَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا، رَكِبَ راحلته‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ وذكر الحديث‏.‏

قال المهلب‏:‏ إنما يحقن الدم بالأذان؛ لأن فيه الشهادة بالتوحيد لله والإقرار بالرسول، وقوله‏:‏ ‏(‏لم يغز حتى يصبح فإن سمع أذانًا كف‏)‏، فهذا عند العلماء لمن قد بلغته الدعوة، وعلم ما الذى يدعو إليه داعى الإسلام، فكان يمسك عن هؤلاء حتى يسمع الأذان؛ ليعلم إن كانوا مجيبين للدعوة أم لا؛ لأن الله قد وعده إظهار دينه على الدين كله، فكان يطمع بإسلامهم، وليس يلزم اليوم الأئمة أن يكفوا عمن بلغته الدعوة لكى يسمعوا أذانًا؛ لأنه قد علم عناد أهل الحرب وغائلتهم للمسلمين، وينبغى أن تنتهز الفرصة فيهم‏.‏

باب مَا يَقُولُ إِذَا سَمِعَ الْمُنَادِي

- فيه‏:‏ أَبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ الرَسُولَ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏إِذَا سَمِعْتُمُ النِّدَاءَ، فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ مُعَاوِيَةَ مِثْلَهُ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وإذا قَالَ‏:‏ حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ، قَالَ‏:‏ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى تأويل هذا الحديث، فقالت طائفة‏:‏ ينبغى لمن يسمع الأذان أن يقول مثلما يقول المؤذن حتى يفرغ من أذانه كله على عموم حديث أبى سعيد، وإليه ذهب الشافعى، وقالت طائفة‏:‏ إنما يقول مثلما يقول المؤذن فى التكبير الشهادتين، ويقول فى موضع قوله‏:‏ حى على الصلاة، حى على الفلاح‏:‏ لا حول ولا قوة إلا بالله، على ما جاء فى حديث معاوية، قالوا‏:‏ وهو مفسر لحديث أبى سعيد، هذا قول مالك، والكوفيين، ومن الحجة لهم أيضًا ما رواه بشر بن المفضل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهرى، عن سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة، عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا تشهد المؤذن فقولوا مثلما يقول‏)‏‏.‏

وقال المهلب‏:‏ ما بعد الشهادتين إنما هو إعلام للناس ودعاء لهم إلى الصلاة، فإذا كان سرًا لم يكن له معنى؛ لأنه لا يسمع به أحد فيكون له فضل الدعوة إلى الصلاة، والسامع إنما يقول ذلك على وجه الذكر لا على وجه دعاء الناس إلى الصلاة، فينبغى أن يجعل مكان ذلك‏:‏ لا حول ولا قوة إلا بالله، كما روى معاوية فهى مفتاح من مفاتيح الجنة‏.‏

واختلفوا فى المصلى يسمع الأذان، فقال مالك‏:‏ يقول مثل قوله من التكبير والتشهد فى النافلة ولا يقوله فى الفريضة، قال‏:‏ وهذا الذى يقع بنفسى أنه أريد بهذا الحديث، وهو قول الليث، وقال ابن شعبان‏:‏ روى أبو المصعب عن مالك أنه يقول فى الفريضة والنافلة، وهو قول ابن وهب واختاره ابن حبيب؛ لأنه تهليل وتكبير، جائزٌ أن يقوله وإن لم يسمع أذانًا، وفى المجموعة لابن عبدوس، عن سحنون‏:‏ لا يقوله أحد فى فريضة ولا نافلة، وروى أنه أريد بالحديث من ليس فى صلاة، وهو قول الشافعى، وحجته أن المؤذنين يؤذنون يوم عرفة والإمام يخطب فلا يقول مثل ما يقولون ويترك ما هو فيه، فالمصلى أولى بذلك‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ لم أجد لأصحابنا فى هذا نصًا، غير أن أبا يوسف قال‏:‏ من أذن فى صلاته إلى آخر الشهادتين لم تفسد صلاته إن أراد الأذان، وفى قول أبى حنيفة‏:‏ لم تفسد صلاته، فهذا يدل من قولهم أن من سمع الأذان فى الصلاة أنه لا يقوله‏.‏

وقل بعض العلماء‏:‏ القياس أنه لا فرق بين المكتوبة والنافلة فى هذا الباب؛ لأن الكلام محرم فيهما، وقوله‏:‏ حى على الصلاة، حتى على الفلاح‏:‏ كلام، فلا يصلح فى شىء من الصلاة، وقد قال ابن المواز‏:‏ إنه من قاله فى صلاته عامدًا أو قال‏:‏ الصلاة خير من النوم أنها تفسد صلاته، قال ابن خويز منداد، عن مالك‏:‏ هو مسىء ولا تبطل صلاته، وأما سائر الأذان فمن الكلام الذى يصلح فى الصلاة‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ وقد قال قوم‏:‏ إن قول الرسول‏:‏ ‏(‏إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول‏)‏ على الوجوب، وخالفهم آخرون وقالوا‏:‏ هو على الاستحباب والندب، واحتجوا بما رواه قتادة عن أبى الأحوص، عن علقمة، عن عبد الله قال‏:‏ ‏(‏كنا مع الرسول فى بعض أسفاره، فسمع مناديًا وهو يقول‏:‏ الله أكبر، الله أكبر، فقال رسول الله‏:‏ ‏(‏على الفطرة‏)‏، فقال‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خرج من النار‏)‏، فابتدرناه، فإذا هو صاحب ماشية أدركته الصلاة فصلى‏)‏، قال الطحاوى‏:‏ فهذا رسول الله سمع المنادى، فقال غير ما قال؛ فدل أن قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏فقولوا مثلما يقول المؤذن‏)‏ على غير الإيجاب، وأنه على الندب وإصابة الفضل، كما علمهم من الدعاء الذى أمرهم أن يقولوه عند إدبار الصلوات وشبه ذلك‏.‏

باب الدُّعَاءِ عِنْدَ النِّدَاءِ

- فيه‏:‏ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ‏:‏ اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلاةِ الْقَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏)‏‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وقد روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول عند الأذان غير ما جاء فى الحديث ويأمر به، وذلك ما روى الليث عن حكيم بن عبد الله بن قيس، عن عامر بن سعد ابن أبى وقاص، عن أبيه، أن رسول الله قال‏:‏ ‏(‏من قال حين يسمع المؤذن‏:‏ وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، رضيت بالله، عز وجل، ربا، وبالإسلام دينًا؛ غفر له‏)‏‏.‏

وما رواه محمد بن فضيل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن حفصة بنت أبى كثير، عن أمها، عن أم سلمة قالت‏:‏ ‏(‏علمنى الرسول فقال‏:‏ إذا كان عند أذان المغرب فقولى‏:‏ اللهم هذا استقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك وحضور صلواتك، اغفر لى‏)‏‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ فهذه الآثار تدل على أنه أريد بها ما يقال عند الأذان من الذكر، فكل الأذان ذِكْر غير‏:‏ حى على الصلاة، حى على الفلاح، فإنهما دعاء إلى الصلاة، والذكر أولى أن يقال‏.‏

وقال المهلب‏:‏ فيه الحض على الدعاء فى أوقات الصلوات حين تفتح أبواب السماء للرحمة، وقد جاء فى الحديث‏:‏ ‏(‏ساعتان لا يرد فيهما الدعاء حضرة النداء بالصلاة، وحضرة الصف فى سبيل الله‏)‏، فدلهم عليه السلام على أوقات الإجابة وأن يدعى بمعنى ما فتح له أبواب السماء وهو قوله‏:‏ ‏(‏رب هذه الدعوة التامة‏)‏، يعنى الأذأن المشتمل على شهادة الإخلاص لله تعالى، والإيمان بنبيه، عليه السلام، وبذلك تم استحقاق الدخول فى الإسلام، و ‏(‏الصلاة القائمة‏)‏ التى هى أول الفرائض بعد الإيمان بالله، فإذا دعا للنبى عليه السلام، بالوسيلة والمقام المحمود فقد دعا لنفسه ولجميع المسلمين، وقوله‏:‏ ‏(‏حلت له شفاعتى‏)‏ معناه غشيته وحلَّت عليه، لا أنها كانت حرامًا عليه قبل ذلك، و ‏(‏اللام‏)‏، هاهنا بمعنى ‏(‏على‏)‏، وذلك موجود فى القرآن، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويخرون للأذقان سجدًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 109‏]‏، يعنى على الأذقان سجدًا، وقوله‏:‏ ‏(‏رب هذه الدعوة‏)‏ لا حجة فيه للمعتزلة الذين يقولون بخلق الصفات، تعالى الله عن قولهم؛ لأن الرب فى اللغة يقال لغير الخالق للشىء، وهو على ضروب‏:‏ فربُّ الشىء بمعنى مالكه ومستحقه كما قال يوسف‏:‏ ‏(‏إنه ربى أحسن مثواى‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 23‏]‏، أى أنه مالكى، والله تعالى، وإن كان لا يجوز أن يوصف بأنه مالك لصفاته فهو مستحق أن يوصف بها؛ لأن الملك والاستحقاق معناهما واحد‏.‏

باب الاسْتِهَامِ فِي الأذَان

وَيُذْكَرُ أَنَّ أَقْوَامًا اخْتَلَفُوا فِي الأذَانِ، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ سَعْدٌ‏.‏

- فيه‏:‏ أَبو هُرَيْرَةَ‏:‏ قال رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ، لأتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا‏)‏‏.‏

قال أبو جعفر الداودى‏:‏ قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لو يعلمون ما فى النداء والصف الأول‏)‏، يريد لو يعلمون ما فيه من عظم الثواب لبادروا إليه جميعًا، فلا يبقى من يقيم لهم الجمعة؛ لأن إمام الجمعة لا يكون مؤذنًا، وإنما يؤذنون بين يديه إذا جلس على المنبر، ولذلك قال عمر‏:‏ لولا الخلاف لأَذَّنُتُ‏.‏

أما إقراع سعد بين الذين اختلفوا فى الأذان فإن الطبرى ذكر أنه افتتحت القادسية صدر النهار واتبع الناس العدو، فرجعوا وقد حانت صلاة الظهر وأصيب المؤذن؛ فتشاج الناس فى الأذان حتى كادوا يجتلدون بالسيوف، فأقرع بينهم سعد فخرج سهل رجل فأذن‏.‏

فالقرعة أصل من أصول الشريعة فى تبدية من استوت دعواهم فى الشىء، وفضل الصف الأول على غيره لاستماع القرآن إذا جهر الإمام والتكبير عند تكبيره والتأمين عند فراغه من فاتحة الكتاب، وقد قيل‏:‏ إن المراد بذكر الصف الأول المسابقة إلى المسجد؛ لأن مَنْ بَكَّر إلى الصلاة وانتظرها وإن لم يصل فى الصف الأول أفضل ممن تأخر وصلى فى الصف الأول؛ لأن المنتظر للصلاة فى صلاة، والتهجير‏:‏ السبق إلى المسجد فى الهواجر، فمن ترك قائلته وقصد إلى المسجد ينتظر الصلاة، فهو من صلاة وهو فى رباط‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ولو يعلمون ما فى العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوًا‏)‏، وإنما خاطب بذكر العتمة من لا يعرف العشاء إلا بهذا الاسم فخاطبهم بما يعقلون، ومن علم أن اسمها العشاء لم يخاطب إلا بما فى القرآن قاله الداودى‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وإنما خص العتمة والصبح دون سائر الصلوات للزومها فى أثقل الأوقات، العشاء وقت الدعة والسكون من كل تعب، وقد جعل الله الليل سكنًا، وفيها تكلف الحركة فى ظلمة الليل مع خوف الهوام الضارة فى الطريق، وأما الفجر فوقت اشتداد النوم لمحبة الناس استدامة الراحة، فكان خروجًا من الدعة إلى تعب الوضوء والمشى إلى المساجد وليس كسائر الصلوات، وبين ذلك قوله‏:‏ ‏(‏أثقل الصلاة على المنافقين العشاء والفجر‏)‏، وقال ابن عمر‏:‏ كنا إذا فقدنا الرجل فى صلاة العشاء والصبح أَسأْنا به الظن، وقال عمر‏:‏ إنى لأشهد الفجر فى جماعة أحب إلى من أن أقوم ليلة، وقال عثمان‏:‏ من شهد العشاء فكأنما قام نصف ليلة، ومن شهد الصبح كأنما قام ليلة، وقوله‏:‏ ‏(‏ولو حَبْوًا‏)‏، يعنى لأتاهما من لا يقدر على المشى كالمقعد وشبهه‏.‏

باب الْكَلامِ فِي الأذَان

وَتَكَلَّمَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ فِي أَذَانِهِ‏.‏

وقال الْحَسَنُ‏:‏ لا بَأْسَ أَنْ يَضْحَكَ وَهُوَ يُؤَذِّنُ أَوْ يُقِيمُ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنُ عَبَّاسٍ ‏(‏أنه خطبهم فِي يَوْمٍ رَدْغٍ، فَلَمَّا بَلَغَ الْمُؤَذِّنُ حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ، أَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ الصَّلاةُ فِي الرِّحَالِ، فَنَظَرَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَقَالَ‏:‏ فَعَلَ هَذَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، وَإِنَّهَا عَزْمَةٌ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ رخص فى الكلام فى الأذان عروة بن الزبير، وعطاء وقتادة، وبه قال عبد العزيز بن أبى سلمة وأحمد بن حنبل، وكرهه النخعى، وابن سيرين، ومالك، والثورى، والأوزاعى، وأبو حنيفة، وأصحابه، والشافعى، إلا أنه روى عن الكوفيين أنه إن تكلم فى أذانه يجزئه ويبنى، وقال ابن القاسم فى المجموعة‏:‏ إذا خاف على صبى أو أعمى أو دابة تقع فى بئر وشبهه تكلم وبنى، وقال الزهرى‏:‏ إن تكلم فى الإقامة أعادها، وهذا الحديث يدل أنه من تكلم يبنى ولا يبتدئ؛ لأنه قد قال‏:‏ الصلاة فى الرحال، وتمادى فى أذانه وهو حجة على من خالفه‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقوله‏:‏ ‏(‏الصلاة فى الرحال‏)‏، وأباح التخلف عن الجمعة بعد أن قال‏:‏ ‏(‏إنها عزمة‏)‏ يدل أنه صلى الجمعة وحدها ولم يصل بعدها العصر، فهو حجة لمالك أنه لا يجوز الجمع بين الظهر والعصر لعذر المطر‏.‏

وقال ابن دريد‏:‏ الرزغة‏:‏ الطين الذى يبل القدم، وقد أرزغ المطر الأرض، وقال صاحب ‏(‏العين‏)‏‏:‏ الرزغة أشد من الردغة، والرازغ المرتطم فيها‏.‏

باب أَذَانِ الأعْمَى إِذَا كَانَ لَهُ مَنْ يُخْبِرُهُ

- فيه‏:‏ ابن عمر أَنَّ النبى صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ بِلالا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا، وَاشْرَبُوا، حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ‏)‏، قَالَ‏:‏ ‏(‏وَكَانَ رَجُلا أَعْمَى لا يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ لَهُ‏:‏ أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ اختلفوا فى أذان الأعمى، فكرهه ابن مسعود، وابن الزبير، وكره ابن عباس إقامته وأجازه طائفة، وروى أن مؤذن النخعى كان أعمى، وأجازه مالك، والكوفيون، والشافعى، وأحمد إذا كان له من يعرفه الوقت؛ لأن أذان ابن أم مكتوم إنما كان يؤذن بعد أن يقال له‏:‏ أصبحت أصبحت‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه جواز شهادة الأعمى على الصوت؛ لأنه ميز صوت من علمه الوقت ممن يثق به، فقام أذانه على قوله مقام شهادة المخبر له، وفيه‏:‏ أيضًا أنه يجوز أن يذكر الرجل بما فيه من العاهات؛ ليستدل بذلك على ما يحتاج إليه، وفيه‏:‏ أن ينسب الرجل إلى أمه إذا كان معروفًا بذلك، وفيه‏:‏ تكنية المرأة، وفيه‏:‏ تكرير اللفظ للتأكيد‏.‏

باب الأذَانِ بَعْدَ الْفَجْرِ

- فيه‏:‏ حَفْصَةُ ‏(‏أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اعْتَكَفَ الْمُؤَذِّنُ لِلصُّبْحِ، وَبَدَا الصُّبْحُ، صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، قَبْلَ أَنْ تُقَامَ الصَّلاةُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ أيضًا قالت‏:‏ ‏(‏كَانَ الرسول صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ بَيْنَ النِّدَاءِ وَالإقَامَةِ مِنْ صَلاةِ الصُّبْحِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ قَالَ الرسول‏:‏ ‏(‏إِنَّ بِلالا يُنَادِي بِلَيْلٍ، فَكُلُوا، وَاشْرَبُوا، حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ‏)‏‏.‏

الأذان بعد الفجر لا خلاف فيه بين الأئمة، وإنما اختلفوا فى جوازه قبل الفجر على ما يأتى ذكره فى الباب بعد هذا، إن شاء الله، وفيه مواظبة رسول الله على ركعتى الفجر وتخفيفه لهما‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وحديث حفصة قد اختلفت ألفاظه، فرواه عبد الله بن يوسف التنيسى عن مالك‏:‏ ‏(‏أن رسول الله‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، وخالفه سائر الرواة عن مالك‏:‏ ‏(‏أن رسول الله كان إذا سكت المؤذن عن الأذان بصلاة الصبح‏)‏، مكان ‏(‏اعتكف المؤذن‏)‏، وروى عن عائشة مثل هذا اللفظ‏:‏ ‏(‏إذا سكت المؤذن‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، وهو يوافق رواية الجماعة عن مالك، ذكره البخارى فى باب ‏(‏من انتظر الإقامة‏)‏، بعد هذا‏.‏

فإن كانت رواية التنيسى عن مالك محفوظة ولم تكن غلطًا، فوجه موافقتها للترجمة أن المؤذن كان يعتكف للصبح، أى ينتظر الصبح لكى يؤذن، والعكوف فى اللغة‏:‏ الإقامة، فكان يرقب طلوع الفجر ليؤذن فى أوله، فإذا طلع الفجر أذن، فحينئذ كان يركع الرسول ركعتى الفجر قبل أن تقام الصلاة، ويشهد لصحة هذا المعنى رواية الجماعة عن مالك‏:‏ ‏(‏كان إذا سكت المؤذن صلى ركعتين خفيفتين‏)‏، فدل أن ركوعه كان متصلاَ بأذانه، ولا يجوز أن يكون ركوعه إلا بعد الفجر، فكذلك كان الأذان بعد الفجر، وعلى هذا المعنى حمله البخارى، ولذلك ترجم له باب ‏(‏الأذان بعد الفجر‏)‏، وأردف عليه حديث عائشة‏:‏ ‏(‏أن النبى كان يصلى ركعتين خفيفتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح‏)‏، ليدل أن هذا النداء كان بعد الفجر‏.‏

فمن أنكر هذا لزمه أن يقول أن صلاة الصبح لم يكن يؤذن لها بعد الفجر، وهذا غير سائغ من القول‏.‏

وأما أذان ابن أم مكتوم فقد اختلف العلماء فى تأويله، فقال ابن حبيب‏:‏ ليس معنى قوله‏:‏ ‏(‏أصبحت أصبحت‏)‏ إفصاحًا بالصبح على معنى أن الصبح قد انفجر وظهر، ولكنه على معنى التحذير من إطلاعه والتحضير له على النداء بالأذان خيفة انفجاره، ومثل هذا قال أبو محمد الأصيلى، وأبو جعفر الداودى، وسائر المالكيين، وقالوا‏:‏ معنى قوله‏:‏ ‏(‏أصبحت أصبحت‏)‏، قارب الصباح كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا بلغن أجلهن‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 234‏]‏، يريد إذا قارب ذلك؛ لأنه إذا انقضى أجلها وتمت عدتها فلا سبيل لزوجها إلى مراجعتها وقد انقضت عدتها، قالوا‏:‏ ولو كان أذان ابن أم مكتوم بعد الفجر لم يجز أن يؤمر بالأكل إلى وقت أذانه؛ للإجماع أن الصيام واجب من أول الفجر‏.‏

وأما مذهب البخارى فى هذا الحديث على ما ترجم به فى هذا الباب فأن أذانه كان بعد طلوع الفجر، والحجة له على ذلك نص ودليل، فأما الدليل فقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إن بلالاً ينادى بليل فكلوا واشربوا حتى ينادى ابن أم مكتوم‏)‏، فلو كان أذان ابن أم مكتوم قبل الفجر لم يكن لقوله‏:‏ ‏(‏إن بلالاً ينادى بليل‏)‏ معنى؛ لأن أذان ابن أم مكتوم أيضًا كذلك هو فى الليل، وإنما يصح الكلام أن يكون نداء ابن أم مكتوم فى غير الليل فى وقتٍ يحرم فيه الطعام والشراب اللذان كانا مباحين فى وقت أذان بلال‏.‏

وقد روى هذا المعنى نصًا فى بعض طرق هذا الحديث، ذكره البخارى فى كتاب الصيام فى باب قول النبى، عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال‏)‏ من رواية عائشة قالت‏:‏ ‏(‏إن بلالاً يؤذن بليل، فقال عليه السلام‏:‏ كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر‏)‏، وهذا نص قاطع للخلاف‏.‏

وأما على من اعتل أن أذانه لو كان بعد الفجر لم يجز أن يؤمر بالأكل إلى وقت أذانه للإجماع أن الصيام واجب أول الفجر، فإنها علة لا توجب فساد معنى الصيام، وإنما كان أذان ابن أم مكتوم علامة لتحريم الأكل لا للتمادى فيه، ولابد أنه كان له من يراعى له الوقت ممن يقبل قوله ويثق بصحته من وكل بذلك منه‏.‏

وقد قال ابن القاسم‏:‏ إنه من طلع عليه الفجر وهو يأكل أو يجامع فليلق ما فى فيه ولينزل عن امرأته، ولا خلاف فى الأكل والشرب، وإنما اختلفوا فى الوطء على ما يأتى ذكره فى كتاب الصيام، ولم يكن الصحابة ليخفى عليهم إيقاع الأكل فى غير وقته فيزاحمون به أذان ابن أم مكتوم، بل كانوا أحوط لدينهم وأشد تحرزًا من ذلك، وقد بين هذا ما رواه شعبة، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن عمته أنيسة، وكانت قد خرجت مع الرسول ‏(‏أنه كان إذا نزل بلال وأراد ابن أم مكتوم أن يصعد تعلقوا به، وقالوا‏:‏ كما أنت حتى نتسحر‏)‏‏.‏

باب الأذَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ

- فيه‏:‏ ابْنِ مَسْعُودٍ قال الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ أَذَانُ بِلالٍ مِنْ سَحُورِهِ، فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ، لِيَرْجِعَ قَائِمَكُمْ، وَلِيُنَبِّهَ نَائِمَكُمْ، وَلَيْسَ أَنْ يَقُولَ الْفَجْرُ، أَوِ الصُّبْحُ، وَقَالَ بِأَصَابِعِهِ، وَرَفَعَهَا إِلَى فَوْقُ، وَطَأْطَأَ إِلَى أَسْفَلُ، حَتَّى يَقُولَ‏:‏ هَكَذَا‏)‏‏.‏

ومَدَّ زُهَيْرٌ بِسَبَّابَتَيْهِ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّ بِلالا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا، وَاشْرَبُوا، حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ‏)‏‏.‏

واختلف العلماء فى جواز الأذان للصبح قبل طلوع الفجر، فأجاز ذلك طائفة، وهو قول مالك، والأوزاعى، وأبى يوسف، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وقال ابن حبيب‏:‏ يؤذن للصبح وحدها قبل الفجر، وذلك واسع من نصف الليل، وذلك آخر أوقات العشاء إلى ما بعد ذلك‏.‏

وقال ابن وهب‏:‏ لا يؤذن لها قبل السدس الآخر من الليل، وقاله سحنون، وقالت طائفة‏:‏ لا يجوز الأذان لها إلا بعد الفجر، وهو قول الثورى، وأبى حنيفة، ومحمد، واحتجوا بحديث ابن مسعود أنه قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال فإنه يؤذن بليل ليرجع قائمكم، ولينبّه نائمكم‏)‏‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ فأخبر أن ذلك النداء من بلال لينبه النائم ويرجع القائم لا للصلاة، وبما رواه حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر ‏(‏أن بلالاً أذن قبل طلوع الفجر، فأمره النبى أن يرجع فينادى‏:‏ ‏(‏ألا إن العبد قد نام‏)‏، فهذا ابن عمر يروى هذا وهو قد روى أن بلالاً ينادى بليل؛ فثبت أن ما كان من ندائه قبل طلوع الفجر إنما كان لغير الصلاة، وأن ما أنكره عليه إذ فعله كان للصلاة، واحتج أهل المقالة الأولى بقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إن بلالاً ينادى بليل فكلوا واشربوا حتى ينادى ابن أم مكتوم‏)‏، قال ابن القصار‏:‏ فأخبر عليه السلام أن نداء بلال للصبح يقع فى الوقت الذى يجوز لمن أراد الصوم أن يأكل ويشرب، وهو قبل الفجر‏.‏

وأما قولهم‏:‏ إن نداء بلال كان لِيُسَحِّرَ الناس بأذانه ويستيقظ النائم وينام القائم كما جاء فى الخبر، فالجواب‏:‏ أنه لو أراد به السحور فقط لقال حى على السحور، ولم يقل حى على الصلاة فيدعوهم، وهو يريد أن يدعوهم إلى السحور، فشأنه يدعوهم إلى الصلاة، وقد يكون لهما جميعًا فيكون أذانه حضًا على الصلاة، وإن احتاج أحد إلى غسل اغتسل، أو يكون فيهم من عادته صلاة الليل ذلك الوقت، أو يكون إنسانًا قائمًا فيعرف أنه قد بقى عليه وقت يستريح فيه بنومه كما كان يفعل الرسول، عليه السلام، فهذا معنى قوله‏:‏ ‏(‏ليرجع قائمكم ولينبه نائمكم‏)‏، وهذا يحتاج إليه فى شهر رمضان وغيره ممن يصوم درهه أو عليه نذر، وقوله‏:‏ ‏(‏إن بلالاً ينادى بليل‏)‏، أى إن من شأنه أن يؤذن بليل الدهر كله، فإذا جاء رمضان فلا يمنعنكم أذانه المعهود من سحوركم، وفى إجماع المسلمين على أن النافلة بالليل والنهار لا أذان لها دليل بين أن أذانه كان لصلاة الصبح‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه أن الإشارة تكون أقوى من الكلام، وقوله‏:‏ ‏(‏ليس الفجر هكذا‏)‏ يريد أن الفجر ليس هو هذا الفجر الأول المعترض فى الأفق، وذلك لا حكم له، وإنما هو علامة للفجر الثانى الذى يُحِلّ ويحرم، الطالع فى مشرق الشمس المستطير إلى المغرب، ولذلك مَدَّ زهير سبابتيه عن يمينه وشماله دلالة على طلوع الفجر وانتشاره‏.‏

باب كَمْ بَيْنَ الأذَانِ وَالإقَامَةِ

- فيه‏:‏ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلاةٌ، ثَلاثًا، لِمَنْ شَاءَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَسِ قَالَ‏:‏ كَانَ الْمُؤَذِّنُ إِذَا أَذَّنَ قَامَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلاَم يَبْتَدِرُونَ السَّوَارِيَ، حَتَّى يَخْرُجَ الرَّسُولُ، وَهُمْ كَذَلِكَ، يُصَلُّونَ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الأذَانِ وَالإقَامَةِ شَيْءٌ، قَالَ شُعْبَةَ‏:‏ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا إِلا قَلِيلٌ‏.‏

وترجم له‏:‏ بين كل أذانين صلاة لمن شاء‏.‏

قال بعض الفقهاء‏:‏ أما كم بين الأذان والإقامة فى الصلوات كلها فلا حَدَّ فى ذلك أكثر من اجتماع الناس، وتمكن دخول الوقت‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏بين كل أذانين صلاة‏)‏، فإنه يريد بين الأذان والإقامة موضع صلاة لمن شاء، لا خلاف فى ذلك بين العلماء إلا المغرب وحدها، فإنهم اختلفوا فى الركوع قبلها، فأجازه أحمد وإسحاق، واحتجا بهذا الحديث، وأباه سائر الفقهاء، وسيأتى الكلام فى ذلك مستوعبًا، إن شاء الله‏.‏

باب مَنِ انْتَظَرَ الإقَامة

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ قَالَتْ‏:‏ ‏(‏كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ بِالأولَى مِنْ صَلاةِ الْفَجْرِ، قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ قَبْلَ صَلاةِ الْفَجْرِ، بَعْدَ أَنْ يَسْتَبِينَ الْفَجْرُ، ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأيْمَنِ، حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ لِلإقَامَةِ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فى هذا الحديث دليل على أن ما جاء فى الحض على التهجير والترغيب فى الاستباق إلى المساجد، إنما كان لمن هو على مسافة من المسجد لا يسمع فيها الإقامة من بيته، ويخشى إن لم يبكر أن يفوته فضل انتظار الصلاة، وأما من كان مجاور المسجد حيث يسمع الإقامة ولا تخفى عليه، فانتظارها فى داره كانتظاره لها فى المسجد، له أجر منتظر الصلاة؛ لأنه لا يجوز أن يترك الرسول الأفضل من الأعمال فى خاصته ويحض عليها أمته، بل كان يلتزم التشديد فى نفسه، ويحب التخفيف على أمته، ولو لم يكن له فى بيته فضل الانتظار لخرج إلى المسجد قبل الإقامة، ليأخذ بحظ من الفضل، والله أعلم‏.‏

وقد قال أبو سليمان الخطابى‏:‏ ‏(‏سكب‏)‏ المؤذن، بالباء، رواه عن عبد العزيز بن محمد، عن الجنيد، قال سويد‏:‏ عن ابن المبارك، عن الأوزاعى، عن الزهرى، عن عروة، عن عائشة، قال سويد‏:‏ سكب‏:‏ يريد أَذَّنَ، والسَّكْبُ‏:‏ الصَّبُّ، وأصله فى الماء يُصَبُّ، وقد يستعار فيستعمل فى القول والكلام كقول القائل‏:‏ أفرغ فى أذنى كلامًا لم أسمع مثله، وأنشد ابن دريد‏:‏

لا يفرغن فى أذنى مثلها ***

وفى الحديث‏:‏ ‏(‏ويل لأقماع القول‏)‏، وهم الذين يسمعون ولا يعملون به، شبه آذانهم بالأقماع يصب فيها الكلام صب الماء فى الإناء، وهذا الذى رواه سويد، عن ابن المبارك له وجه فى الصواب، ولا يدفع ذلك رواية من روى ‏(‏سكت‏)‏، بالتاء؛ لأنها بينة المعنى فى الصواب، وقد تأتى ‏(‏الباء‏)‏ بمعنى ‏(‏من‏)‏، و ‏(‏عن‏)‏ فى كلام العرب كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الرحمن فاسأل به خبيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 59‏]‏، أى عنه، وقوله‏:‏ ‏(‏عينًا يشرب بها عباد الله‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 6‏]‏، أى يشرب منها، وممكن أن يكون، والله أعلم، حمل الراوى لهذا الحديث على أن يرويه سكب بالباء، دون التاء؛ لأن المشهور فى سكت أن تكون معلقة ‏(‏بعن‏)‏، أو ‏(‏من‏)‏، كقولهم‏:‏ سكت عن كذا، أو سكت من كذا، فلما وجد فى الحديث مكان ‏(‏من‏)‏ و ‏(‏عن‏)‏ الباء ظن أنه ‏(‏سكب‏)‏ من أجل مجىء الباء بعدها، وقد ذكرنا أن الباء تأتى بمعنى ‏(‏عن‏)‏ و ‏(‏من‏)‏، وكل الروايتين خارج المعنى، والله أعلم‏.‏

باب مَنْ قَالَ يُؤَذِّنْ فِي السَّفَرِ مُؤَذِّنٌ وَاحِدٌ

- فيه‏:‏ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ ‏(‏أَتَيْتُ الرسول صلى الله عليه وسلم فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِي، فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَكَانَ رَحِيمًا شَفِيقًا، فَلَمَّا رَأَى شَوْقَنَا إِلَى أَهَالِينَا، قَالَ‏:‏ ارْجِعُوا، فَكُونُوا فِيهِمْ، وَعَلِّمُوهُمْ، وَصَلُّوا، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ، فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ هكذا روى هذا الحديث وهيب، عن أيوب ‏(‏وصلوا‏)‏، ورواه عبد الوهاب، عن أيوب فى كتاب خبر الواحد ‏(‏وصلوا كما رأيتمونى أصلى‏)‏، وقصر وهيب فى هذه الزيادة، وبها يتم الحديث‏.‏

والمؤذن الواحد يجزئ فى السفر والحضر، وقد اختلفت الآثار، كم كان يؤذن للنبى‏؟‏‏.‏

فروى عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان لرسول الله مؤذنان‏:‏ ابن أم مكتوم، وبلال، وقال السائب ابن أخت نَمر‏:‏ ما كان للنبى عليه السلام، إلا مؤذن واحد يؤذن إذا قعد على المنبر ويقيم إذا نزل، ثم أبو بكر، ثم عمر كذلك، حتى كان عثمان وفشا الناس وكثروا، زاد النداء الثالث عند الزوراء‏.‏

قال المهلب‏:‏ وإنما اشترط السن فى الإمامة لعلمه، عليه السلام، باستوائهم فى القراءة والفقه، فطلب الكمال بالسن وسيأتى الكلام فى هذا المعنى فى بابه، إن شاء الله‏.‏

باب الأذَانِ لِلْمُسَافِرِ إِذَا كَانُوا جَمَاعَةً وَالإقَامَةِ

وَكَذَلِكَ بِعَرَفَةَ وَجَمْعٍ وَقَوْلِ الْمُؤَذِّنِ الصَّلاةُ فِي الرِّحَالِ فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ أَوِ الْمَطِيرَةِ‏.‏

- فيه‏:‏ أَبو ذَرٍّ قَالَ‏:‏ ‏(‏كُنَّا مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَأَرَادَ الْمُؤَذِّنُ أَنْ يُؤَذِّنَ، فَقَالَ لَهُ‏:‏ أَبْرِدْ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ، فَقَالَ لَهُ‏:‏ أَبْرِدْ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ، فَقَالَ لَهُ‏:‏ أَبْرِدْ، حَتَّى سَاوَى الظِّلُّ التُّلُولَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَم‏:‏ ‏(‏إِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ‏:‏ ‏(‏أَتَى رَجُلانِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُرِيدَانِ السَّفَرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ إِذَا أَنْتُمَا خَرَجْتُمَا، فَأَذِّنَا، ثُمَّ أَقِيمَا، ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ نَافِعٌ عن ابْنُ عُمَرَ‏:‏ أَذَّنَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ بِضَجْنَانَ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ، فَأَخْبَرَنَا ‏(‏أَنَّ النبى صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْمُرُ مُؤَذِّنًا أَنْ يُؤَذِّنُ، ثُمَّ يَقُولُ عَلَى إِثْرِهِ‏:‏ أَلا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ أَوِ الْمَطِيرَةِ فِي السَّفَرِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبو جُحَيْفَةَ قَالَ‏:‏ ‏(‏رَأَيْتُ النبى صلى الله عليه وسلم بِالأبْطَحِ، فَجَاءَهُ بِلالٌ، فَآذَنَهُ بِالصَّلاةِ، وَأَخْرَجَ الْعَنْزَةِ، فَرَكَزَهَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالأبْطَحِ، وَأَقَامَ الصَّلاةَ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى الأذان والإقامة فى السفر، فاستحب طائفة أن يؤذن المسافر ويقيم لكل صلاة، روى ذلك عن سلمان، وعبد الله بن عمرو، وعن سعيد بن المسيب مثله، وهذا قول الكوفيين، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وقالت طائقة‏:‏ هو بالخيار إن شاء أذن، وإن شاء أقام، روى ذلك عن على بن أبى طالب، وهو قول عروة، والثورى، والنخعى، وقالت طائفة‏:‏ يجزئه إقامة، روى ذلك عن مكحول، والحسن البصرى، والقاسم، وكان ابن عمر يقيم فى السفر لكل صلاة إلا الصبح، فإنه كان يؤذن لها ويقيم‏.‏

وفى المختصر عن مالك‏:‏ ولا أذان على مسافر، وإنما الأذان على من يجتمع إليه لأذانه، وقال عطاء‏:‏ إذا كنت فى سفر فلم تؤذن ولم تقم فأَعِدِ الصلاة، وقال مجاهد‏:‏ إذا نسى الإقامة فى سفر أعاد، والحجة لهما قوله عليه السلام، للرجلين‏:‏ ‏(‏أذنا وأقيما‏)‏، قالا‏:‏ وأمره على الوجوب، والعلماء على خلاف قول عطاء، ومجاهد؛ لأن الإيجاب يحتاج إلى دليل لا منازع فيه، وجمهور العلماء على أنه غير واجب فى الحضر، والسفرُ الذى قصرت فيه الصلاة عن هيئتها أولى بذلك‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ والجواب عن قوله للرجلين‏:‏ ‏(‏أذنا وأقيما‏)‏، فإنه أراد الفضل بدلالة قوله‏:‏ ‏(‏أذِّنَا‏)‏، والواحد يجزئ عندهم‏.‏

وأحاديث هذا الباب محمولة عند العلماء على استحباب الأذان والإقامة فى السفر، وقد جاءت آثار فى ترغيب الأذان والإقامة فى أرض فلاة، وأنه من فعل ذلك يصلى وراءه من الملائكة أمثال الجبال‏.‏

باب هَلْ يَتَتَبَّعُ الْمُؤَذِّنُ فَاهُ هَاهُنَا وَهَاهُنَا، وَهَلْ يَلْتَفِتُ فِي الأذَان

وَيُذْكَرُ عَنْ بِلالٍ أَنَّهُ جَعَلَ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ‏.‏

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لا يَجْعَلُ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ‏.‏

وقال إِبْرَاهِيمُ‏:‏ لا بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ‏.‏

وقال عَطَاءٌ‏:‏ الْوُضُوءُ حَقٌّ وَسُنَّةٌ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ‏:‏ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبو جُحَيْفَةَ أَنَّهُ رَأَى بِلالا يُؤَذِّنُ، فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُ فَاهُ هَاهُنَا وَهَاهُنَا بِالأذَانِ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ إنما يتبع المؤذن فاه هاهنا وهاهنا، ليعم الناس باستماعه، وأما إدخاله أصبعيه فى أذنيه، فذلك ليتقوى على تأدية صوته، وإسماعه الناس، وهذا كله مباح عند العلماء، فما كان أندى لصوته، كان له فعله‏.‏

وقال ابن سيرين والحسن‏:‏ لا بأس أن يدخل أصبعيه فى أذنيه وهو قول الكوفيين، والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، وقال مالك‏:‏ ذلك واسع‏.‏

وقال إبراهيم‏:‏ يستقبل المؤذن بالأذان والشهادة والإقامة القبلة، فإذا قال‏:‏ حى على الصلاة، قال‏:‏ بوجهه عن يمينه وشماله، وهو قول الحسن البصرى، وكره ابن سيرين أن يستدير فى أذانه‏.‏

وفى ‏(‏المدونة‏)‏‏:‏ أنكر مالك الاستدارة إنكارًا شديدًا، قال ابن القاسم‏:‏ وبلغنى عنه أنه قال‏:‏ إن كان يريد أن يسمع فلا بأس به‏.‏

وحديث أبى جحيفة حجة على من أنكر الاستدارة؛ لأن قوله‏:‏ ‏(‏جعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا‏)‏ يدل على استدارته، وقد روى ابن أبى شيبة هذا المعنى قال‏:‏ حدثنا عباد ابن العوام، عن حجاج، عن عون بن أبى جحيفة، عن أبيه‏:‏ ‏(‏أن بلالاً ركز العنزة، وأذن، فرأيته يدور فى أذانه‏)‏، ولا يخلو فعل بلال أن يكون عن إعلام النبى له بذلك، أو رآه يفعله، فلم ينكره، فصار حجة وسنة‏.‏

وقال مالك فى ‏(‏المختصر‏)‏‏:‏ لا بأس أن يستدير عن يمينه وشماله وخلفه، وليس عليه استقبال القبلة فى أذانه، وفى ‏(‏المدونة‏)‏ لابن نافع‏:‏ أرى أن يدور ويلتفت حتى يبلغ حى على الصلاة، وكذلك ابن الماجشون، ورآه من حَدِّ الأذان، وقال الكوفيون، والشافعى‏:‏ أن زال ببدنه كله فى الأذان فهو مكروه، ولا شىء عليه، وهذا خلاف ما رواه ابن أبى شيبة فى أذان بلال أنه كان يدور فيه‏.‏

واختلفوا فى الأذان على غير وضوء، فممن أجازه سوى إبراهيم‏:‏ قتادة، والحسن، وحماد، ورواية عن عطاء، وهو قول مالك، والثورى، وأبو حنيفة، وممن كرهه إلا على وضوء‏:‏ أبو هريرة، قال‏:‏ لا يؤذن إلا متوضئًا، وهو قول مجاهد، ورواية عن عطاء، وبه قال الأوزاعى، وإسحاق، وكان الشافعى، وأبو ثور يكرهان ذلك، ويجزئه إن فعل، وقول عائشة‏:‏ ‏(‏كان الرسول يذكر الله على كل أحيانه‏)‏، حجة لمن لم يوجبه، وقال أبو الفرج‏:‏ لا بأس بأذان الجنب، وأجازه سحنون فى غير المسجد‏.‏

وقال ابن القاسم‏:‏ لا يؤذن الجنب، وكرهه ابن وهب‏.‏

باب قَوْلِ الرَّجُلِ فَاتَتْنَا الصَّلاةُ

وَكَرِهَ ابْنُ سِيرِينَ أَنْ يَقُولَ‏:‏ فَاتَتْنَا الصَّلاةُ، لِيَقُلْ‏:‏ لَمْ نُدْرِكْ وَقَوْلُ الرسول صلى الله عليه وسلم أَصَحُّ - فيه‏:‏ ابْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَال‏:‏ َ ‏(‏بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ الرسول صلى الله عليه وسلم إِذْ سَمِعَ جَلَبَةَ رِجَالٍ، فَلَمَّا صَلَّى، قَالَ‏:‏ ‏(‏مَا شَأْنُكُمْ‏)‏‏؟‏ قَالُوا‏:‏ اسْتَعْجَلْنَا إِلَى الصَّلاةِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَلا تَفْعَلُوا إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلاةَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏وما فاتكم، فأتموا‏)‏، يقتضى جواز قول الرجل‏:‏ فاتتنا الصلاة، ولا وجه لقول ابن سيرين‏.‏

وفيه‏:‏ الأمر بالسكينة فى الإقبال إلى الصلاة، وترك الإسراع إليها‏.‏

وقد اختلف السلف فى ذلك، فروى عن أبى ذر أنه قال‏:‏ إذا أقيمت الصلاة، فامش إليها كما كنت تمشى، فصلّ ما أدركت، واقض ما سُبقت، وعن أبى هريرة، وزيد بن ثابت مثله، وروى أبو هريرة، وأنس عن الرسول مثله‏.‏

روى حماد بن سلمة، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبى هريرة، عن النبى عليه السلام، قال‏:‏ ‏(‏إذا أقيمت الصلاة، فليمش أحدكم نحو ما كان يمشى، فليصلّ ما أدرك، وليقض ما فاته‏)‏، وحديث أنس رواه حماد، عن ثابت، وقتادة، وحميد، عن أنس، عن الرسول نحوه، وقال ابن مسعود‏:‏ امشوا إلى الصلاة، وقاربوا بين الخُطا، واذكروا الله‏.‏

وروى ابن أبى شيبة، عن ابن عمر‏:‏ أنه كان يمشى إلى الصلاة، فلو مشت معه نملة، لرأيت ألا يسبقها، وعن مجاهد مثله، وهو قول أحمد بن حنبل على ظاهر الحديث، وقد رخصت طائفة فى الإسراع إلى الصلاة، روى عن ابن مسعود خلاف ما تقدم عنه، أنه قال‏:‏ أحق ما سعينا إليه الصلاة، وكان ابن مسعود، وسعيد بن جبير يهرولان إلى الصلاة، وروى مالك، عن نافع، عن ابن عمر أنه سمع الإقامة فأسرع المشى، وهذا يدل مع ما روى عنه أنه لا يسرع المشى إلى الصلاة، أنه حمل قوله، عليه السلام‏:‏ ‏(‏عليكم بالسكينة‏)‏، أن المراد به من لم يخش فوات الصلاة، وكان فى سعة من وقتها، وقد روى عن مالك مثل قول ابن عمر، وروى عنه ابن القاسم أنه قال‏:‏ لا بأس بالإسراع إذا أقيمت الصلاة، ما لم يَخُبَّ، إذا خاف فوت الركعة، وقال‏:‏ لا بأس أن يحرك فرسه من سمع مؤذن الحرم ليدرك الصلاة، وقال إسحاق بن راهويه‏:‏ إذا خاف فوت التكبيرة الأولى، فلا بأس أن يسعى‏.‏

باب‏:‏ مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا

قَالَهُ أَبُو قَتَادَةَ عَنِ الرسول صلى الله عليه وسلم - فيه‏:‏ أَبو هُرَيْرَةَ قَالَ الرَّسُول‏:‏ ‏(‏إِذَا سَمِعْتُمُ الإقَامَةَ، فَامْشُوا إِلَى الصَّلاةِ، وَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ، وَلا تُسْرِعُوا، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ معنى أمره بالسكينة فى السعى إلى الصلاة، والله أعلم، لئلا يُبهر الإنسان نفسه، فلا يتمكن من ترتيل القرآن، ولا من الوقار اللازم له فى الخشوع‏.‏

وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إذا سمعتم الإقامة، فامشوا إلى الصلاة‏)‏، يرد ما فعله ابن عمر من إسراعه إلى الصلاة حين سمع الإقامة، ويُبين أن الحديث على العموم، وأن السكينة تلزم من سمع الإقامة، كما تلزم من كان فى سعة من الوقت‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا‏)‏، فيه حجة لمن قال‏:‏ إن ما أدرك المأموم من صلاة الإمام، فهو أول صلاته، وقد اختلف العلماء فى ذلك، ففى المدونة، عن مالك، أن ما أدرك فهو أول صلاته، إلا أنه يقضى مثل الذى فاته من القراءة بأم القرآن وسورة، ورواه ابن نافع، عن مالك، وقال سحنون فى ‏(‏العتبية‏)‏‏:‏ هذا الذى لم نعرف خلافه، وهو قول مالك، أخبرنى به غير واحد، وهو قول سعيد بن المسيب، والحسن البصرى، ومكحول، وعطاء، والزهرى، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وقالت طائفة‏:‏ ما أدرك مع الإمام، فهو آخر صلاته والذى يقضيه أول صلاته، روى ذلك عن ابن مسعود، وابن عمر، والنخعى، والشعبى، وابن سيرين، وأبى قلابة، ورواه عيسى عن ابن القاسم، عن مالك فى العتبية، ورواه أشهب عنه، وهو قول أشهب، وابن الماجشون، واختاره ابن حبيب، وقال‏:‏ الذى يقضى هو أولها؛ لأنه لا يستطيع أن يخالف إمامه، فتكون له أولى وللإمام ثانية أو ثالثة‏.‏

وحكى الطحاوى، عن أبى حنيفة‏:‏ أن الذى يدرك مع الإمام هو آخر صلاته وهو عنده قول الثورى، وحجة هذا القول رواية من روى هذا الحديث‏:‏ وما فاتكم فاقضوا، والقضاء لا يكون إلا لفائت، ومعلوم أن الفائت من صلاة المأموم ما سبقه به إمامه، وفى إجماعهم أنه يقضى بقية صلاته كما وردت السنة دليل على أن الذى يقضيه فائت، وأن الذى صلى مع الإمام ليس هو الفائت‏.‏

فإن قيل‏:‏ فلم تأمره إذا قضى الفائت بالتشهد، وقد فعله قبل ذلك عندك فى موضعه‏.‏

قيل‏:‏ لأنه لم يفعل التسليم، ومن سنة التسليم أن يكون عقيب التشهد، وحجة القول الأول قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏وما فاتكم فأتموا‏)‏، والتمام لا يكون إلا للآخر، ومستحيل أن يكون ما أدرك‏:‏ آخر صلاته، فعمله أولاً؛ لأنه لا يكون آخرًا إلا وقد تقدمه أول‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ كيف يصح فى قول مالك أن يكون ما أدرك أول صلاته، ولا خلاف عنده أنه من أدرك من مع الإمام ركعتين أنه يقرأ فيهما كما يقرأ الإمام بأم القرآن فى كل ركعة، فإذا سلم، قام فقرأ فيما يقضى‏:‏ بالحمد وسورة فى كل ركعة‏؟‏‏.‏

قيل‏:‏ جواب هذا السؤال اتفاق الجميع على أن الإحرام لا يكون إلا فى أول الصلاة، والتشهد والسلام لا يكون إلا فى آخرها، فكان ما أدرك‏:‏ أول صلاته، وجواب آخر‏:‏ وهو قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏وما فاتكم فاقضوا‏)‏، وذلك أن الذى فاته هو الذى فعله إمامه، وهى قراءة أم القرآن، وسورة فى كل ركعة، فوجب عليه قضاء مثله، وهذا المعنى بعينه يقتضى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏وما فاتكم فأتموا‏)‏؛ لأن التمام فى اللغة إتمام شىء ناقص تقدمه، ولا يكون تمامًا لشىء حتى يؤتى بكل ما نقص منه، وقد فسر أهل اللغة القضاء على غير ما احتج به الفقهاء، وقالوا‏:‏ القضاء يكون لغير فائت، قال صاحب ‏(‏الأفعال‏)‏‏:‏ قضى الشىء‏:‏ صنعه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فقضاهن سبع سماوات فى يومين‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 12‏]‏، أى صنعهن، وقال‏:‏ ‏(‏فاقض ما أنت قاض‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 72‏]‏، أى اصنع ما أنت صانع، قال أبو ذؤيب‏:‏ وعليهما مسبرودتان قضاهما داود أو صنع السَّوابِغَ تُبَّعُ أى صنعهما داود، قال‏:‏ ويقال‏:‏ قضيت الحق‏:‏ خرجت منه، وقضيت العمل والأمر‏:‏ فرغت منهما، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا قضيت الصلاة فانتشروا فى الأرض‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 10‏]‏، وهذا كله يدل على صحة قول من قال‏:‏ إن ما أدرك فهو أول صلاته‏.‏

وفى المسألة قول ثالث قاله المزنى، وإسحاق، وأهل الظاهر قالوا‏:‏ ما أدرك فهو أول صلاته إلا أنه يقرأ فيهما بالحمد وسورة مع الإمام، وإذا قام للقضاء، قضى بالحمد وحدها، فيما يقضى لنفسه، كأنه آخر صلاته، فهؤلاء طردوا قولهم على أصولهم إلا أنه لا سلف لهم فيه، فلا معنى له‏.‏

باب مَتَى يَقُومُ النَّاسُ إِذَا رَأَوُا الإمَامَ عِنْدَ الإقَامَةِ

- فيه‏:‏ قال أَبو قَتَادَةَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ، فَلا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي‏)‏‏.‏

وترجم له‏:‏ باب لا يسعى إلى الصلاة، ولا يقم إليها مستعجلاً، وليقم إليها بالسكينة والوقار‏.‏

- وزاد فى الحديث‏:‏ ‏(‏لا تقوموا حتى ترونى، وعليكم بالسكينة والوقار‏)‏‏.‏

فائدة هذا الحديث أن تكون الإقامة متصلة بالصلاة، وألا يقام لها إلا بحضرة الإمام، وأمرهم، عليه السلام، ألا يطيعوا المؤذن فى ذلك خشية التراخى والمهلة بين الإقامة والدخول فى الصلاة، فينتظرونه قيامًا؛ لأن شأن الدخول فى الصلاة، اتصاله بإقامة من غير فصل، فلذلك نهاهن عن القيام قبل خروجه، والله أعلم‏.‏

وقد اختلف السلف فى ذلك، فقالت طائفة‏:‏ إذا أقيمت الصلاة، فلا يقوم الناس حتى يأتى الإمام، على ظاهر حديث أبى قتادة، وروى ذلك عن على بن أبى طالب، وهو قول إبراهيم، وقالوا‏:‏ ينتظره الناس قعودًا، وهو قول أبى حنيفة والشافعى، وروى عن الحسن، وعمر بن عبد العزيز أنهم ينتظرونه قيامًا‏.‏

واختلف فى قيام المأمومين إلى الصلاة إذا كان الإمام فى المسجد، فروى عن سالم، وأبى قلابة، والزهرى، وعطاء أنهم كانوا يقومون فى أول الإقامة، وبه قال أحمد، وإسحاق، وقال أبو حنيفة، ومحمد‏:‏ يقومون فى الصف إذا قال المؤذن‏:‏ حى على الفلاح، وإذا قال‏:‏ قد قامت الصلاة كبر الإمام، وهو فعل أصحاب عبد الله، والنخعى، وقال أبو يوسف، ومالك، والشافعى‏:‏ لا يكبر الإمام حتى يفرغ المؤذن من الإقامة، وهو قول الحسن البصرى، وأحمد، وإسحاق‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وعلى هذا جلّ الأئمة‏:‏ مالك، والشافعى، والعمل فى أمصار المسلمين، يعنى فى تكبير الإمام بعد تمام الإقامة‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقوله‏:‏ ‏(‏لا تسع إلى الصلاة، ولا تقم إليها مستعجلاً‏)‏، فذلك لأن السكينة تلزم عند الوقوف بين يدى الله، وفى القيام إلى الصلاة استشعار بحال الوقوف بين يدى الله، تعالى‏.‏

باب هَلْ يَخْرُجُ مِنَ الْمَسْجِدِ لِعِلَّةٍ

- فيه‏:‏ أَبو هُرَيْرَةَ ‏(‏أَنَّ نبى اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ وَقَدْ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ، وَعُدِّلَتِ الصُّفُوفُ، حَتَّى إِذَا قَامَ فِي مُصَلاهُ، انْتَظَرْنَا أَنْ يُكَبِّرَ، انْصَرَفَ، قَالَ‏:‏ عَلَى مَكَانِكُمْ، فَمَكَثْنَا عَلَى هَيْئَتِنَا، حَتَّى خَرَجَ إِلَيْنَا، يَنْطِفُ رَأْسُهُ مَاءً، وَقَدِ اغْتَسَلَ‏)‏‏.‏

وترجم له‏:‏ باب إِذَا قَالَ الإمَامُ‏:‏ مَكَانَكُمْ حَتَّى رَجَعَ انْتَظَرُوهُ‏.‏

- وقال فيه‏:‏ ‏(‏أُقِيمَتِ الصَّلاةُ، فَسَوَّى النَّاسُ صُفُوفَهُمْ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَقَدَّمَ، وَهُوَ جُنُبٌ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ عَلَى مَكَانِكُمْ‏.‏‏)‏‏.‏

وذكر الحديث‏.‏

معنى هذا الباب‏:‏ هل يخرج من المسجد إذا ذكر أنه جنب دون أن يتيمم أم لا‏؟‏ وقد تقدم هذا الباب فى كتاب الطهارة، وذكرت هناك اختلاف العلماء فى ذلك فأغنى عن إعادته‏.‏

وقال المهلب‏:‏ فيه أن يكون بين الأذان والإقامة مهلة عند الضرورة بقدر اغتساله عليه السلام، وانصرافه إليهم‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ فإن هذا الحديث يعارض حديث أبى قتادة، أنه عليه السلام، قال‏:‏ ‏(‏إذا أقيمت الصلاة، فلا تقوموا حتى ترونى‏)‏‏.‏

قيل‏:‏ يحتمل أن يكون حديث أبى قتادة على غير الإيجاب والحتم، بل على وجه الرفق بهم لئلا ينتظروه قيامًا‏.‏

وفيه‏:‏ جواز انتظار الجماعة لإمامها الفاضل ما دام فى سعة من الوقت‏.‏

وفيه‏:‏ جواز انتظارهم له قيامًا، وهذا مما يكون فيما قرب‏.‏

وفى هذا الحديث حجة لمالك وأبى حنيفة أن تكبير المأموم يقع بعد تكبير الإمام، وهو قول عامة الفقهاء، ويرد قول الشافعى فى إجازته تكبير المأموم قبل إمامه؛ لأنه روى حديث أبى هريرة على ما رواه مالك، عن إسماعيل بن أبى حكيم، عن عطاء بن يسار، أن رسول الله كبر فى صلاة من الصلوات، ثم أشار إليهم أن امكثوا فذهب، ثم رجع، وعلى جلده أثر الماء، فاحتج به الشافعى فى ذلك، ونقض أصله؛ لأنه حديث مرسل، وهو لا يقول بالمراسيل‏.‏

ومالك الذى ذكره فى موطئه تركه، وأراد أن يعرفنا أنه رواه، ولم يقل به؛ لأنه قد صح عنده أنه عليه السلام، لم يكن كبر حينئذ على ما رواه أبو هريرة، وهذا الحديث رواه يونس، ومعمر، والأوزاعى، وصالح بن كيسان، عن الزهرى، عن أبى سلمة، عن هريرة، وأنه عليه السلام لم يكن كبر، وذهب فاغتسل، ثم رجع، فكبر، ولو لم يكن يستأنف التكبير عند رجوعه لما صحت صلاة من خلفه؛ لأنه كان يقع تكبيره بعد تكبيرهم، ولا يستحق الإمام اسم الإمامة إلا بتقديم فعله فعل من يأتم به واتباعهم له، ومن كبر قبل إمامه فلم يأتم به، ولا حصل متبعًا له‏.‏

باب قَوْلِ الرَّجُلِ مَا صَلَّيْنَا

- فيه‏:‏ جَابِرُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ ‏(‏أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَاءَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا كِدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ، فَقَالَ عَلَيهِ السَّلاَم‏:‏ وَاللَّهِ مَا صَلَّيْت، فَنَزَلَ عَلَيهِ السَّلاَم إِلَى بُطْحَانَ، فَتَوَضَّأَ، وَصَلَّى العَصْر بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ‏)‏‏.‏

فى هذا الحديث رد على قول من يقول، إذا سئل‏:‏ هل صليت؛ وهو منتظر للصلاة، فيكره أن يقول‏:‏ لم أصل، وهو قول إبراهيم النخعى، رواه ابن أبى شيبة، عن ابن مهدى، عن سفيان، عن أبى هاشم، عن إبراهيم أنه كره أن يقول الرجل‏:‏ لم نصل، ويقول‏:‏ نصلى، وقول الرسول‏:‏ والله ما صلينا، خلاف قول إبراهيم، ورد له، فلا معنى له‏.‏

باب الإمَامِ تَعْرِضُ لَهُ الْحَاجَةُ بَعْدَ الإقَامَةِ

- فيه‏:‏ أَنَسِ قَالَ‏:‏ ‏(‏أُقِيمَتِ الصَّلاةُ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُنَاجِي رَجُلا فِي جَانِبِ الْمَسْجِدِ، فَمَا قَامَ إِلَى الصَّلاةِ حَتَّى نَامَ الْقَوْمُ‏)‏‏.‏

وترجم له‏:‏ باب الْكَلامِ إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ‏.‏

فى هذا الحديث ردّ لقول الكوفيين أن المؤذن إذا أخذ فى الإقامة، وقال‏:‏ قد قامت الصلاة، وجب على الإمام تكبيرة الإحرام، ولو كان ما قالوه سنة الصلاة، ما كان عليه السلام يُدخل بين الإقامة وبين الدخول فى الصلاة عملاً من غيرها، ويدل على صحة هذا القول عملُ الخلفاء الراشدين به من بعد الرسول، وأمرهم بتسوية الصفوف بعد الإقامة، فإذا أخبروا بذلك كبروا، وبهذا قال مالك، وأهل الحجاز، ومحمد بن الحسن‏.‏

وما تعلق به الكوفيون من قول أبى هريرة‏:‏ لا تفتنى بآمين، فإنما كان نادرًا منه؛ لأن شأنه فى صلاته كما كان عمل الخلفاء بعده‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفى هذا الحديث دليل أن اتصال الإقامة بالصلاة ليس من وكيد السنن، وإنما هو من مستحبها، وقد قال مالك‏:‏ إذا بعدت الإقامة من الإحرام رأيت أن تعاد الإقامة استحبابًا؛ لأن فعل الرسول فى هذا الحديث يدل أنه ليس بلازم، وإنما كان عند الحاجة التى يخاف فوتها من أمر المسلمين‏.‏

واختلف العلماء فى الكلام بعد الإقامة، فأجازه الحسن البصرى، وقال أبو مجلز‏:‏ أقيمت الصلاة، وصفت الصفوف، فابتدر رجل لعمر، فكلمه فأطالا القيام، حتى ألقيا إلى الأرض والقوم صفوف‏.‏

وكره الكلام بعد الإقامة‏:‏ النخعى، والزهرى، وهذا الحديث حجة عليهما‏.‏